على الرغم من التطور المذهل فى الذكاء الاصطناعى والمنعكس فى كل المجالات حاليًا، فنحن ما زلنا على أعتاب الجيل الأول، فالتوقعات والتداعيات المترتبة على الأجيال القادمة التى ستأتى سريعًا، لا يمكن تصورها، مذهلة فى إيجابيتها، مرعبة فى سلبياتها. كما الحال فى كل المجالات، ستتأثر السياسة برمتها من الذكاء الاصطناعى، يعد الأمن الوطنى الأولوية المطلقة للدول، والأمن الوطنى لا ينحصر فى القوة العسكرية والتهديدات الخارجية العسكرية، بل كما تشير مدرسة كوبنهاجن بقيادة بارى بوزان، الأمن الوطنى مفهوم مركب يتضمن الأمن الاقتصادى، العسكرى، الاجتماعى، البيئى، وأخيرًا قد أضيف الأمن السيبرانى.. وغيرها من التطورات التى لا تنتهى.
يعد تأثير الذكاء الاصطناعى على الأمن الوطنى للدول من أكثر القضايا الجدالية صعبة الحسم؛ إذ ينحى البعض منحى شديد الإيجابية، بينما يذهب آخرون إلى التشاؤم الشديد. يوفر الذكاء الاصطناعى آليات وتقنيات شديدة الدقة والسرعة، ما يمنح الدول قدرة مذهلة على جمع تحليل البيانات الكمية واستخلاص نتائج وتوقعات محددة رصينة فى دقائق معدودة، كما يمنحها قدرة مذهلة أيضًا على المراقبة عن بعد والرصد والتحليل بدقة وسرعة فائقة، ما ينعكس على تعظم قدرة الدول على حماية أمنها الوطنى، ورصد التهديدات بكل أشكالها العسكرية، الاقتصادية، الاستخباراتية، البيئية فى مهدها وتحديد أفضل السبل للتصدى لها.
وقد تجسد ذلك أخيرًا فى مناسبات وأحداث كثيرة، فتقنيات الذكاء الاصطناعى تمكنت من رصد كوارث طبيعية قبل حدوثها بفترة وبدقة فائقة، وفى صراعات وحروب 2025؛ نجحت إسرائيل، على سبيل المثال، من تحديد وضرب واغتيال أفراد ومنشآت مستهدفة بدقة فائقة من «حزب الله» و«حماس» وإيران، عبر تقنيات التتبع والرصد المذهلة التى تعمل بالذكاء الاصطناعى، أوكرانيا أيضًا نجحت فى ضرب منشآت روسية حساسة عبر الذكاء الاصطناعى.
ما سبق يعكس جانبًا واحدًا وهو الإيجابى من الحقيقة؛ إذ هناك نقمات سلبية كثيرة خطيرة يفرضها الذكاء الاصطناعى على الأمن الوطنى بمفهومه الشامل. يتلخص العنوان الرئيس للذكاء الاصطناعى فى جملة واحدة (السرعة الرهيبة فى التطور، السهولة المذهلة فى الانتشار، الصعوبة البالغة فى السيطرة عليه). ويدل ذلك أن الأمن الوطنى سيواجه بتحديات خطيرة لا حصر لها، من حيث المبدأ، تفرض السرعة الرهيبة على الدول إرهاقًا ماديًا وتخطيطًا شديد الوطأة لمواكبة هذا التطور خاصة تطور قدرات الخصوم والأعداء المعروفين والمحتملين؛ لأن الخصم ببساطة يمكنه بين ليلة وضحاها امتلاك تقنيات شديدة التطور يهدد بها الأمن الوطنى بسهولة، مثل اختراق الأنظمة الإلكترونية للمنشآت والهيئات العسكرية الحساسة، فكما ذكرنا أن أوكرانيا، وهى أقل تقدمًا من روسيا التى تعد عملاقًا قادمًا فى الذكاء الاصطناعى، ورائدًا عالميًا فى الأمن السيبرانى، قد نجحت فى اختراق روسيا بسهولة.
وبطبيعة الحال، الدول الفقيرة ستكون فريسة سهلة لاختراق وتهديد أمنها الوطنى، بل إن كثيرًا من الدول الغنية الكبرى ستكون فى وقت ما عاجزة بالفعل عن مواكبة هذا التطور المذهل.
السهولة المذهلة فى الانتشار هى كارثة كبرى قادمة محدقة للأمن الوطنى للدول، فالذكاء الاصطناعى سيمنح وبسهولة الكيانات من غير الدول، مثل الجماعات الإرهابية، وعصابات الجريمة المنظمة، بل حتى الأفراد العاديين (الهاكرز) قوة غير مسبوقة فى التاريخ، يستطيعون من خلالها فرض تأثيرات وتحديات خطيرة على الدول، إذ على سبيل المثال، قد تتمكن جماعة إرهابية بسهولة من تطوير تقنيات خارقة فى الذكاء الاصطناعى، لأن سبل تطويره لا تحتاج سوى قدرات عقلية وابتكار ومهارة تقنية؛ تستطيع من خلالها اختراق الدول، ونشر الفوضى والشائعات، وتنفيذ عمليات إرهابية، وتجنيد واستقطاب عناصر لها.
وأخيرًا، هناك تحدى صعوبة السيطرة عليه، وهو تحدى متعدد الأبعاد، إذ هناك، وهو أخطر ما يخشاه خبراء الذكاء الاصطناعى، تحدى التحكم والتطور الذاتى للذكاء الاصطناعى؛ أى أن يعمل باستقلالية ويتخذ القرارات من تلقاء نفسه، فعلى سبيل المثال، قد تخالف تقنيات حماية الذكاء على المنشآت العسكرية خاصة النووية البرامج والتوجيهات المحددة لها، أو تعطى تقنيات جمع وتحليل البيانات نتائج خاطئة أو مضللة. وصعوبة التحكم أيضًا تكمن فى صعوبة سيطرة الدول الكاملة على تفاعلات الأفراد والمستخدمين للذكاء داخليًا، فنشر الشائعات والأكاذيب القيم السلبية، واختراق الأجهزة والهيئات الداخلية، سيكون أمرًا سهلًا وواسع النطاق.
نورة صالح المجيم
جريدة القبس الكويتية