الدولة الرخوة وازدراء الدين والفن والوطن - جلال أمين - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 10:12 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الدولة الرخوة وازدراء الدين والفن والوطن

نشر فى : الجمعة 4 مايو 2012 - 8:05 ص | آخر تحديث : الجمعة 4 مايو 2012 - 8:05 ص

الغالبية العظمى من المصريين (ومن غير المصريين أيضا) يحترمون الدين، ويحبون الوطن، ويعشقون الفن، ولا يعتبرون أحدها مضادا للآخر. فلماذا يصر البعض منا هذا الإصرار الغريب على أن يعتبروا الفن ازدراء للدين، ومن أجل الدين يزدرون الفن، وباسم الدين أيضا يزدرون الوطن؟

 

انشغل المصريون فى الأيام الأخيرة بحادثتين شديدتى الغرابة. الأولى تتعلق برفع دعوى قضائية من جانب أحد المحامين (المولعين برفع مثل هذه الدعاوى) ضد فنان مشهور (هو عادل إمام) بتهمة ازدراء الأديان، على أساس أن أفلامه تظهر المتدينين فى صورة تدعو إلى الاستهزاء والسخرية.

 

وصدر فعلا حكم من المحكمة الابتدائية بحبس وتغريم عادل إمام لارتكابه هذه الجريمة، ورفض الطعن فى الحكم وأيدت المحكمة الحكم بالحبس والغرامة. كانت نتيجة ذلك أن انتفض عدد كبير من الفنانين والكتاب المصريين احتجاجا على هذا الحكم، وقاموا بمظاهرة أمام نقابة الصحفيين، وظهرت لبعضهم صور فى التليفزيون وقد استبد بهم غضب شديد، وظهرت بعض الفنانات والكاتبات المصريات وهن فى حالة عصبية من فرط الغضب وعدم تصديق أن مثل هذا يمكن أن يحدث فى مصر. وعبر ممثل مشهور عن حزنه العميق وأسفه أن يحدث هذا فى بلد أنتج أول فيلم سينمائى فى 1895، وبعضا من أنجح وأشهر الأفلام السينمائية فى العالم طوال القرن الماضى.

 

الحادثة الثانية هى القبض على محام مصرى شاب عند وصوله إلى مطار بالمملكة السعودية فى طريقه هو وزوجته لأداء العمرة. وكان هذا المحامى قد رفع دعوى ضد السعودية بسبب قيامها باعتقال بعض المصريين دون وجه حق. وانتشر خبر (قالت السلطات السعودية فيما بعد أنه مجرد شائعة) عن صدور حكم غيابى فى السعودية بحبس هذا المحامى المصرى وجلده بتهمة العيب فى الذات الملكية. كانت النتيجة أن ثار عدد كبير من المصريين، معظمهم من الشباب الغاضب لكرامة المصريين، فتجمعوا أمام سفارة المملكة السعودية فى القاهرة وهتفوا هتافات معادية للسلطات السعودية، مما أغضب الحكومة السعودية غضبا شديدا فاستدعت سفيرها من القاهرة، وأغلقت سفارتها وقنصلياتها فى مصر.

 

فى هاتين الحادثتين اجتمعت مشاعر الغضب للدين، والغضب للفن والغضب للوطن. فنان يُتهم بازدراء الدين، ومحام وقضاة يتهمون بازدراء الفن، ويتظاهر شباب مصرى ضد حكومة عربية احتجاجا على ازدراء الوطن. وقد أثارت الحادثتان فى نفسى مشاعر قوية وبعض الأفكار التى أريد أن أشرك القارئ معى فيها.

 

أما المحامى الغاضب لدينه فقد فهمت سبب غضبه هو وأقرانه، ولكنى لم أستطع بالمرة التعاطف معه. فإذا كان هو وأقرانه يرون فى أفلام عادل إمام ازدراء للدين، فمن الممكن جدا لعادل إمام أن يدافع عن نفسه بأنه لا يزدرى الدين بل بتفسير معين للدين، وبنوع معين من السلوك الذى يجرى تبريره خطأ باسم الدين. ولكن الأهم من ذلك أنى لا أستطيع أن أقر اللجوء إلى القضاء لحسم مثل هذا الخلاف. ذلك لأنى أعتقد أن الأعمال الفكرية والفنية لا يجب الاحتكام بصددها إلى القضاء بل إلى المفكرين والفنانين أنفسهم. فالحجة تقارع بالحجة، والأدب والفن يقارعان بالأدب والفن، ويجب أن يترك الفصل فى أيهما أقرب إلى الحقيقة إلى الرأى العام، أى إلى مدى استجابة الناس لهذا الموقف أو ذاك وليس إلى القضاء.

 

كان هذا شعورى ورأيى عندما نشبت أزمة المرحوم الدكتور نصر حامد أبوزيد، فاعتبر البعض أنه أساء إلى الدين ورفع عليه دعوى ترتب عليها صدور حكم بالتفريق بينه وبين زوجته، وما انتهى إلى ما يشبه نفيه خارج البلاد حتى وفاته. كان هذا هو شعورى أيضا إزاء الأزمة التى فجرتها رواية للكاتب البريطانى سلمان رشدى والتى تضمنت عبارات بذيئة وسخيفة تسىء إلى زوجات النبى، ومن ثم إلى مشاعر المسلمين ممن يمكن أن يقرأوا الكتاب. كان الرجل يقدم عملا فنيا أساء فيه الأدب، ولكنى كنت ضد إهدار دمه بل وحتى ضد مصادرة الكتاب أو تقديمه للقضاء. فالعمل السخيف أو البذىء سوف ينصرف عنه الناس، وإذا أراد أحد أن يرد عليه فليفعل، والمصادرة أو المحاكمة قد تزيد الضرر بأن تمنح الكتاب فرصة أكبر للانتشار. الساحة الفكرية فى الغرب والشرق مليئة بكتب المتدينين وغير المتدينين، فلماذا ننفرد نحن بهذه الدرجة من القسوة؟

 

لهذا تعاطفت تماما مع مشاعر الأدباء والفنانين الذى نظموا مظاهرات للتعبير عن خوفهم من أن تتطور الأمور إلى الأسوأ فالأسوأ فى هذا الاتجاه. فيخاف الفنان أو الأديب من التعبير عن رأيه فتنضب بالتدريج ينابيع الفن والأدب، وتتحول الساحة الأدبية والفنية إلى أعمال تردد نفس النغمة ونفس الفكرة. لقد حدث مثل هذا بوضوح تام وبدرجة تدعو إلى الأسف الشديد فى روسيا السوفييتية فى عهد ستالين، فشرد أصحاب الآراء المخالفة للماركسية، ومن نجح منهم فى الهرب إلى خارج البلاد اعتبر نفسه سعيد الحظ بنجاته بنفسه وعقله. وانتهى عهد الأدب الروسى العظيم إلى عهد تردد فيه الكليشيهات الخالية من أى روح.

 

ولكنى لا أخفى على القارئ ما دار بذهنى من تساؤل عما إذا كانت مثل هذه المظاهرات والاحتجاجات من جانب الفنانين تكفى لحل المشكلة.

 

فى مثل هذه الأزمات الحادة لا مناص فى رأيى من قيام الدولة بدور حاسم، وإلا فلماذا قامت الدولة أصلا؟ لا يجوز فى رأيى عندما تصل الازدواجية فى المجتمع (بل الانفصام فى الشخصية) إلى هذا الحد أن تترك الدولة الناس يضرب بعضهم البعض وينكل بعضهم بالآخرين كلما استطاع، ويدفع فريق من الناس فريقا آخر إلى ما يشبه اليأس والتفكير فى ترك البلاد إلى غير رجعة. الدولة التى أتكلم عنها، هى الدولة الرشيدة والقوية، التى لا تقف متفرجة بينما يتقاتل الناس، ولا هى الدولة التى تنحاز لفريق ضد آخر (كما انحازت الدولة السوفييتية) فتزيد الغضب المكتوم أو تزيد النار اشتعالا، بل هى الدولة التى تدرك أن مثل هذه الخلافات لا تحل بالانفراد بالرأى بل بالتسامح مع الطرف الآخر، والسماح له بالعيش والتعبير عن نفسه.

 

يكاد الأمر يشبه انقسام المجتمع الأمريكى إلى بيض وسود، حيث يحتاج الأمر هنا أيضا إلى دولة رشيدة قوية، لا تنحاز بثقلها إلى هؤلاء أو أولئك، بل توقف المعتدين عند حدهم ولو كانوا أغلبية.

 

إنى أتذكر جيدا ملابسات أزمة الدكتور نصر حامد أبوزيد، عندما بدأ الخلاف أولا فى أروقة الجامعة، ثم منعت ترقيته، ثم لجأ البعض إلى القضاء وانتهى الأمر بالحكم بالتفريق بين زوجين. ما كان أجدر بالدولة أن تتدخل فى الأمر فى وقت مبكر وتضع حدا لهذه المهزلة. بل ما كان أسهل عليها بمجرد مكالمة تليفونية أن تعيد الأمور إلى نصابها وينتهى الأمر بانتصار حرية التعبير عن الرأى. ولكن هذا لم يحدث حينئذ، فتطور الأمر إلى مأساة. بل بدا لى ولكثيرين غيرى فى ذلك الوقت أن النظام الحاكم كان يشجع على مزيد من الفتنة حتى يظهر هو بمظهر الطرف غير المنحاز، بينما كان فى الحقيقة منحازا لمزيد من الفتنة.

 

***

فى أزمتنا مع السلطات السعودية، احتج الشباب المصرى على ما رأوه امتهانا لكرامة محام مصرى لمجرد قيامه بواجب إنسانى، بينما قالت السلطات السعودية إن صدور حكم عليه بتهمة العيب فى الذات الملكية ليس إلا شائعة، وأن القبض عليه تم بسبب محاولة تهريب مواد ممنوعة إلى داخل السعودية. ولكنى أعتقد أن أهمية هذه الحادثة تتجاوز بكثير ما فعله أو ما لم يفعله المحامى الشاب، إذ إنها أبرزت إلى السطح طبيعة العلاقات غير السوية القائمة منذ زمن طويل بين مصر والمملكة السعودية، وهى علاقات غير سوية بسبب تكرر ما أبداه النظام الحاكم فى مصر من رخاوة إزاء ما يتعرض له المصريون من إذلال خارج بلادهم. لقد تكررت حوادث تنطوى على هذا الإذلال فى المملكة السعودية وغيرها طوال عهد مبارك، وسمح بها نظام مبارك فلم يتحرك لحماية كرامة المصريين فى الخارج، كما لم يتحرك لحماية الفنانين المصريين فى الداخل. لأن من الواضح أن نظام مبارك لا يهمه إلا حماية نفسه، ومستعد لأن يدفع فى سبيل ذلك، وعن طيب خاطر، ثمنا باهظا يتمثل فى التضحية بكرامة المصريين فى الداخل والخارج. فلما قامت ثورة يناير 2011، كان الأمل أن يتوقف هذا التنازل عن الكرامة بسقوط حسنى مبارك، فإذا بنا نكتشف للأسف أن الدولة فى مصر لاتزال دولة رخوة فى تعاملها مع دول الخليج، حتى بعد قيام الثورة. لقد حاول الشباب المصرى الذى قام بمظاهرات واحتجاجات أمام السفارة السعودية أن يقوموا بالواجب الذى تقاعست عنه الحكومة، فلا يجب أن نلومهم على أنهم تركوا لعواطفهم العنان، أو لأن تعبيرهم عن مشاعرهم لم يكن دبلوماسيا بالدرجة الكافية.

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات