لا يختلف أحد على أن النظام الدولى المعاصر مضطرب، بعد خروجه عن منظومة القطبين، يترنح بين عالم القطب الأوحد، والمتعدد الأقطاب، ونظام دون أقطاب رئيسية.
كما لا يختلف أحد على أن الشرق الأوسط غير مستقر وفى مرحلة إعادة تشكيل، طبيعية وجبرية، نتيجة اختلاف نسب نجاح وفشل المنظومة الوطنية بين دولة وأخرى، وطموح دول غير عربية لتشكيل المنطقة على هويتها، وعلى رأس هذه الدول إسرائيل.
وأهم العناصر المشتركة بين المسرح الدولى والإقليمى أن الاضطرابات صاحبتها أو كانت نتيجة قرارات استراتيجية للأطراف المتطلعة للهيمنة، بالخروج عن التوافق والتوازن الدولى والإقليمى، والذى يشكل نظاما دوليا وإقليميا مستقرا وعلى أساس التعايش البارد حتى فى ظل بعض التوترات.
واستبدلت مرحلة التعايش البارد بأخرى يغلب عليها المنظور الأحادى والحلول القريبة من الصفرية لحساب بعض الأطراف، على المستوى الدولى من قبل الغرب، بالتركيز على المحاور الاقتصادية لتوجيه المحاور الاجتماعية والسياسية، وفى الشرق الأوسط من قبل إسرائيل باستخدام القوة العسكرية والسياسية الخشنة، مدعومة من الولايات المتحدة بشكل خاص، فغلب قانون القوة على قوة القانون، دون مراعاة الحقوق المشروعة للغير، أو سيادة الدول، واستخدام العنف وازدواجية المعايير على الملأ.
والأوضاع الدولية والإقليمية الآن بالغة الصعوبة والخطورة، وتتواصل تداعياتها عبر البحار والقارات، مما يفرض على الدول المستقلة عامة، وفى الشرق الأوسط على الدول العربية خاصة، أخذ زمام المبادرة برؤى شاملة، وثبات انفعالى، والشجاعة والحكمة فى اتخاذ القرارات وترجمة سياساتنا إلى حيز التنفيذ.
ومع أهمية اللحظة وصعوبة الموقف، لا أبالغ فى القول، أو أتهاون مع الظرف، بالتنويه أن تجاوز العالم العربى هذا الإعصار بأمان، مرهون أساسا بكلمات ثلاث، إلا وهى التحدى، والتطوير، والبناء.
علينا كعرب تقدير حجم التحدى، بل التحديات، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر، محاولة تمييع الهوية العربية فى الشرق الأوسط، وفى الدول العربية ذاتها، واستبدالها بشكل خاص بهوية شرق أوسطية، بنكهة إسرائيلية، أو هوية المصلحة المادية اللحظية قصيرة الأجل على حساب المصلحة الاستراتيجية الإقليمية إذا لزم ذلك، والدفع بأن المهيمن الجديد مدخل ووسيط العرب للعالم المتقدم تكنولوجيا وماليا.
وتفتيت الهوية العربية لصالح الغير والسيطرة على القنوات المالية والتكنولوجية وتحجيم تمتع الدول العربية بها، فيه تهديد واضح وطويل الأجل على الأمن القومى للدول العربية، عسكريا واقتصاديا وسياسيا، وعلى مصر والسعودية والدول العربية المؤثرة وضع خطة وتصور للأمن القومى العربى، لمناقشته على المستوى العربى، قبل التشاور مع دول الجوار غير العربى، باعتبار ما يجمعنا من مفاهيم ومصالح أكثر بكثير عن أى تباين فى المواقف حول بعض القضايا.
وتقتضى الأمانة أيضا المصارحة بضرورة التصدى إلى تحدٍ ذاتى على المستوى العربى، لإعادة الثقة واطمئنان المواطنين فى مصداقية الهوية العربية، بطموح واجب يستند إلى العناصر التى تجمعنا، وهى ليست قليلة، خاصة فى المجالات الثقافية والتراثية والاقتصادية، مع التعامل بواقعية واحترام للأولويات المختلفة بين الحين والآخر وخاصة على المستوى السياسى.
وأدعو للاستفادة لأقصى درجة من تعدد التجمعات العربية على المستوى دون الإقليمى، وبتشجيعها إيجابيا، والعمل على توافق أعمالها وتكاملها فى الإطار الإقليمى العربى الأوسع، باعتبارها إضافات تراكمية للعمل العربى العام.
وذاتيا يشمل التحدى تأمين وتدعيم مفهوم الدولة الوطنية فى العالم العربى، مع احترام خصوصيات شعوبنا وطوائفنا المختلفة، حتى لا نترك مجالا للتفتيت والفرقة، خاصة واعتبارا من القرن الواحد والعشرين أو قبل ذلك بقليل، كانت الفتنة من أهم بذور عدم الاستقرار العربى والفرقة الوطنية والانشقاق، والمستغلة من قبل تيارات متعصبة منشقة أو الجهات الأجنبية.
ومن التحديات كذلك ضرورة التصدى لكل محاولات فرض الواقع وتشكيل النظام الإقليمى بالقوة، باعتبار أننا دول متوسطة ووسطية، ويعد القانون الدولى العمود الأساسى فى تغليب الحق على الباطل، وفى الحفاظ على الأمن القومى لأوطاننا وعالمنا، والضمان الآمن لاستقرار المنظومة الإقليمية العادلة، مع مراعاة كل الدول والشعوب، وفقا لمعايير واحدة ومشتركة للجميع، والممارسات الإسرائيلية فى الأشهر الأخيرة فى غزة والضفة، وسوريا ولبنان واليمن، فضلا عن إيران، ترجمة عملية لسياسات معلنة للمسئولين الإسرائيليين، أنها تعيد تشكيل المنطقة وستستخدم القوة وازدواجية المعايير ضد أى جهة تقف فى طريقها.
ولعل من أفضل سبل الارتفاع إلى مستوى التحدى، وتوفير فرص النجاح، تبنى العالم العربى وطنيا وإقليميا منهجية التطوير المتدرج المستمر، للحفاظ على خصوصياتنا وحقوقنا وثقلها الإقليمى والدولى فى المقام الأول، ولمواكبة الأحداث لأن الأوضاع الدولية والإقليمية تتغير باستمرار، لا يكفى أن يكون العالم العربى على دراية ومتابع للتطورات الدولية والإقليمية، بل من الضرورة أن نساهم فى تشكيل النظام المعاصر وتوجهاته ونتائجه خاصة على المستوى الإقليمى الشرق أوسطى، وهناك أطراف دولية وإقليمية غير عربية عديدة تعبث وتجول فى العالم العربى والشرق أوسطى.
ولن ننجح فى توجيه التطور الإقليمى إلى بر الأمان دون أن تبنى فلسفة التطوير الذاتى المستمر على المستوى الوطنى والإقليمى العربى السياسى والاقتصادى والأمنى، بما فى ذلك بالنسبة لمؤسساتنا الوطنية والإقليمية، لتمثل جميع دولنا ويتحمس لها الكل، من المغرب العربى إلى المشرق والخليج، لتكون قادرة على التفاعل الشامل والسريع مع الأحداث المستجدة والمتشابكة والمتغيرة بمعدلات سريعة، فى عصر الذكاء الاصطناعى والطائرات دون قيادة والابتكار الجينى ووسائل التوجيه الذكية ووسائل الإيصال بعيدة المدى، لأن قطار التطور السريع لا يتوقف، ويستفيد منه المواكبون والمشكلون له، ويترك الآخرين فى مهب الريح، وأتمنى أن يتحول العالم العربى إلى مصدر لتوليد التكنولوجيا ليس مجرد مستخدم له.
وعلينا الاستمرار فى بناء الدول الوطنية الحديثة والقوية، صاحبة القرار المستقل، القادرة على تحريك الأوضاع وتحمل الضغوط والأزمات، والساعية إلى المشاركة فى المنظمات الإقليمية والدولية، ويتحقق ذلك بالاستناد فى قراراتنا الخارجية على مزيج من قدراتنا الوطنية، والعلاقات الإقليمية والدولية، مما يحافظ على دورنا النشط فى الساحة الدولية التى لا يمكن الانعزال عنها، ويؤمن لنا استقلالية القرار وتعدد الخيارات لصالح شعوبنا.
والبناء السياسى والمجتمعى الإقليمى والدولى يتطلب أرضية ومنظومة اقتصادية وطنية صلبة ومنتجة، لأنها المحك الرئيسى للنجاح والمستهدف الأول، ومنظومة اقتصادية غاية الكفاءة فى الأداء، بصرف النظر عن كونها رأسمالية أو اشتراكية أو غير ذلك، والكفاءة تتطلب الشفافية فى المعلومات ذات الصلة، والمحاسبة على الإخفاء والمكافأة على حسن الأداء، وتمكين وتشجيع الكل على المشاركة والمنافسة، سعيا لخلق منظومات ومؤسسات اقتصادية قادرة على الاستجابة لمتطلبات المجتمع والمنافسة مع الشركات الدولية محليا ودوليا، لأن اقتصاديات العالم متصلة ومتواصلة، ولم يعد هناك مجال للتنمية المستدامة للدول المتوسطة فى عزلة أو استقلال عن الأسواق الدولية المنافسة.
ارتفاعنا إلى مستوى التحدى، وتبنى فلسفة التطوير، وعقد العزم على البناء ضرورات لمستقبل أفضل للعالم العربى.
نقلا عن إندبدندنت عربية