قامُوس الأوفِياء - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الإثنين 4 نوفمبر 2024 4:49 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قامُوس الأوفِياء

نشر فى : الجمعة 4 أكتوبر 2024 - 6:20 م | آخر تحديث : الجمعة 4 أكتوبر 2024 - 6:20 م

تقدَّم الولد الصَّغير من المنطقة التى تراكم فيها الحُطام، نطقَ بكلمات قليلة لكنها حاسمة؛ تُرجرِج الأفئدةَ وتهزُّ السامعين. كان يقسم على الوفاءِ بالوعد ورفعِ الرأس ما دام حيَّا. مثله أقسمَ كثيرون وكثيرات؛ صِبيةٌ وفتيانٌ ورجالٌ، صبايا وشاباتٌ وعجائز؛ كلهم عازم على أن يفىَ بالعَهد، وأن يُطهّر الأرضَ من العدوّ المُحتَل.

* • •

تقولُ قواميسُ اللغة العربية إن الشَّخصَ الوَفىَّ هو من يَحمل العِرفانَ ويَحترم أواصرَ الصِلة ويَستبقى ما قام من وِد، فلا يُهمِل صاحبَه أو يتجاهله مهمًا تقلبَت الظروف. يُقال وفَّى بالعهد أىّ نفَّذ شروطَه، ووفّى فلانُ علانًا حقَّه أىّ أعطاه إياه كاملًا دون انتقاص. إذا ردًّ المرءُ ما عليه وزَاد، قيل: وفَّيت وكفَّيت، والمعنى أن عطاءَه قد فاضَ عن القَّدر المُستحَق، ووشى بكرم الأخلاقِ وطِيب المَنبت. الوفاءُ مَصدرٌ، وفى الوقت ذاته اسمٌ تراجَع استخدامُه، وأقلَّ منه انتشارًا وفيَّة ووافى، وإذا قيل شرحٌ وافٍ فذاك الذى لا يترك تساؤلًا إلا وأجابه.

* • •

هانت الأقوالُ والأفعالُ فى زمانِنا هذا، وسَهُل أن يُبدلَ المَرءُ ما آمن به مِثلما يُبدل ملابسَه؛ فينتقى منها ما يُناسِب الأجواءَ ويتماشى مع السائدِ ويَستجلبُ المَغانم؛ بغَض النَّظر عن مدى أخلاقيته. بات الفردُ الوَفىُّ لمبادئه عملةً شَحيحة.

* • •

غالبًا ما يَرحلُ كبار القَّدر والقيمة دون أن يوَفيَهم الناسُ حقوقَهم. يُعد وجودُهم بديهيًا لا يحتاج إشارةً أو إشادةً أو تكريم؛ لكنهم متى غابوا عن الحياة؛ تنبَّه مَن حولِهم لما تركوا من فراغ، وانهالت على ذِكراهم عباراتُ المديح والثناء؛ إنما بعد فوات الأوان.

* • •

أشهر الأحياءِ اتصافًا بالوفاء هو الكلب. إذا أحبَّ صاحبَه تبعه أينما ذهب، فإذا نهرَه حَزن وتألم، وإذا شعر الكلبُ بمَرضِ رفيقه لازمَه؛ فإن انتهى عمره امتنع عن الطعام حتى يلحق به. الرابطةُ التى تجمع الكلابَ والبشرَ قوية مُتعددة الجوانب؛ ودٌّ وجزلٌّ وفرحةٌ صادقةٌ صافية؛ لا حِساب فيها ولا تدبير.

* • •

بعضُ الإهداءاتِ المَطبوعة داخل الكُّتب تحملُ وفاءً من الكاتب لشَخصٍ ما؛ أثَّر فيه أو كان له عونًا على إنجاز العَمل. يأتى الإهداءُ فى العَادة دليلَ عِرفانٍ وامتنان. ربما لمَن هو أقرب إلى القَّلب، أو لرفيق فكرٍ على الدَّرب، لمُعلمٍ جليلٍ أو قرينِ رِحلة كِفاحٍ طويلة.

* • •

استيفاءُ الشىء يعنى إتمامه؛ لكن الأمرَ قد يتعذَّر فى بعض الأحوال؛ إذ من المصالح الحكومية ما يطلب أوراقًا ومُستندات ومُسوغات تبدو فى كثير الأحيان غير منطقية؛ لا ترتبط بالإجراء الذى يُرجى إنجازُه، فإن لم تُستَوف تعطَّل قضاءُ الحَاجة وتوقَّف سَير العَمل.

* • •

قدَّم المُخرج فطين عبد الوهاب فيلم عروس النيل للبنى عبد العزيز ورشدى أباظة فى مطلع الستينيات، الفيلم مِن أخفّ وألطف الأعمالِ التى جمعت النَّجمين الراحلين، والقِصة التى كتبها سعد الدين وهبة من النُّصوصِ القليلة التى طرَقت طقوسًا مِصريَّة قديمة تناقَضت بشأنها الآراء؛ فالتضحية بالبَشر على هذا المنوال لم تكُن فى رأى كثير العلماءِ مُمارَسة حقيقية؛ إنما فِعلٌ مَجازىٌّ يَرمُز إلى مبلغ تقديرِ المِصريين للنهرِ الوَحيد الذى يَشُقُّ أراضيهم، ودلالة على استعدادهم لتقديم القرابين استدرارًا لفيضانه وتوقًا للحصول على بركتِه ورضائِه. على كلّ حال مرَّت السنونُ وتراكمت القرون، ونال النهرُ من أهلِه الإهمالَ والتقصيرَ؛ بل وبات مُهدَّدًا بالجَّفاف.

* • •

«وفاءً لذكرى فلان» عبارةٌ تُنقَش فى مُقدمة أعمالٍ درامية، قاصدة بعضَ من كان لهم دورٌ فى إنجازها بصُورة أو أخرى. تراجعت اللفتاتُ والإيماءاتُ التى تحملُ قدرًا من الوَفاء للآخر، فغالبُ الناس لا يُريدون أن يكونَ لأحدٍ عليهم فضلٌ أو مِنَّة. الجُّحود هنا أدقُّ ما يَصِف هؤلاء، وهو بتعريفه نقيضُ الوفاء، إذ لا يضع الجاحد فى حسبانه ما قدم الآخرون؛ لا يهتم بمساعدة نالها ولا يَميل إلى ردّ الجَّميل، عادة ما يأخذُ ويُنكِر فى صَفاقة ما أخذ.

* • •

يُقال إن سنمار بعدما أنهى قصر الخورنق الذى كُلِف ببنائه ــ وكان مِعماريًا ذائعَ السَّيط ــ قد أُلقى من علٍ ليقضى نحبَه، بغية ألا يجد فُرصَةً لتشييد ما قد يفوقُ عملَه الأخيرَ عظمةً وبهاء. لم يَحظ سنمار بأىّ قدرٍ من الوفاء لصنيعه؛ بل كان نصيبه الغدر، فولىّ نعمته لا يَصون العِشرَة ولا يُوفّى بالكلمة.

* • •

أدى الفنان حسن حسنى فى أرابيسك دور «الأستاذ وفائى» الذى تحلى بنصيب وافرٍ من اسمه؛ هو وفىٌّ لتاريخِه عارف بأصوله، لا يترك فُرصَة إلا وتحاكى به واستفاض. وفائىّ يبدو الأكثر استبصارًا من بين شخصيات المُسلسَل؛ يدرك مَواطِن الخطأ بدقة ويملِك الإجابةَ عن سؤال الهُويَّة الذى طالما شَغل البال. المُسلسَل تعاونٌ بين العظيمين أسامة أنور عكاشة وجمال عبد الحميد، وبطولة القدير صلاح السعدنى وقد قدمته الشاشة فى أوائل التسعينيات.

* • •

تبدو صفةُ الوفاء وسط الظروفِ الحالكة من النَّوادر؛ يبتكر الواحدُ للتمَلص من مُتطلباتها ألف سَبب وعلة. الوفاءُ بالكلمة تواجهه مصاعبٌ شتّى، والوفاءُ بالدَّين فى ظل عثرةٍ اقتصاديةٍ كبرى صار من الخيال.

* • •

بعضُ الناسِ يُوفون بما عليهم ولو صادفتهم الأهوال. عَرِفت من لا ينام الليلَ بسبب دَين يَتمنى دون طائل قضائَه، أو معروفٍ يؤرق جفونَه ويَحضُّه على فعل ما يكافئه. عرفت آخرين لا يهتمون إطلاقًا بتلك المسألة، حتى ليُشار إليهم بأنهم سَميكوا الجُّلود كناية عن غيابِ إحساسهم بالموقف.

* • •

 يوفى المقاومون على أرض فلسطين ولبنان بدين سالفيهم، يمضون على الدرب طالبين النصر أو الموت بإباء. لا تستوقفهم إغراءات الحياة الآمنة ولا يغويهم ما دون نوال الحرية. حفظ الكرامة دافع للوفاء بدَين الدم، والكبرياء العفى وقود المعارك المصيرية؛ فإن فقد المرء كليهما، عاش فى مرتبة الهوام.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات