فى سيادية البحث العلمى محمد رءوف حامد - العالم يفكر - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 3:20 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى سيادية البحث العلمى محمد رءوف حامد

نشر فى : الأحد 5 يناير 2020 - 9:00 م | آخر تحديث : الأحد 5 يناير 2020 - 9:00 م

تكاد ظاهرة سيادية بعض الوزارات أن تقتصر تماما على بعض دول الجنوب، والتى كان يطلق عليها «العالم الثالث»، بينما تخلو منها دول الشمال (أو الدول المتقدمة) فى عمومها.
وإذا كان هذا الوضع قد برز على وجه الخصوص فى العراق (فيما بعد اجتياحها أمريكيا)، وفى لبنان (مع اتفاقية الطائف لإنهاء الحرب الأهلية)، فإن بلدانا جنوبية أخرى، عربية وغير عربية، يُمارس فيها هذا النهج، سواء بشكل رسمى أو غير رسمى.
هنا تطرأ بعض التساؤلات:
ماذا يقصد بالسيادية؟ وما هى حدود المعقولية بشأن ظاهرة الوزارات السيادية فى بعض بلدان الجنوب؟ وهل يوجد بالفعل احتياج أصيل فى هذه البلدان لسيادية ما لبعض الوزارات؟

المعنى العام للسيادية
بينما من الممكن أن يكون لمفهوم السيادية دلالاته على مستوى الإنسان الفرد، بمعنى اعتماده على قدراته (الذهنية) فى حسن التفاعل (والمواجهة) بشأن تحديات الحياة، فإن الأبعاد الأصيلة لهذا المفهوم تنحصر فى كل من كيان الدولة ككل والعلاقات الدولية.
تعود مرجعية السيادية كلازمة، أو كخاصية حصرية للدولة (أو للحكومة) إلى زمن بعيد، فقد رآها أرسطو بمثابة النفوذ الأعلى والذى لا يعلوه نفوذ آخر. إنه نفوذ من المفترض أن تختص به الدولة أو الحكومة. بعدها، فى الأزمنة الأحدث استخدمت فكرة السيادية لدعم التحول من النظام الإقطاعى إلى سيادية الأمة (فرنسا القرن الـ 16)، وقد قاد ذلك فيما بعد إلى الإشارة فى الدستور الفرنسى للسيادية (1791) باعتبارها تختص صراحة بالأمة.
فى الزمن الحالى، يمكن القول بأن مفهوم السيادية لم يخرج عن صُلب المعنى الأصيل المعروف عنه تاريخيا، والذى يتعلق بسلطة الدولة فى الهيمنة، من خلال أجهزتها ومؤسساتها، على صناعة سياساتها، وعلى تنظيم أمورها (الداخلية والخارجية).
وهكذا مع السيادية، كمفهوم أصيل، يتبين أن لا كيان داخل الدولة تكون له سيادية أعلى (أو فوق) سيادية الدولة ذاتها، والتى تُمارَس فى أرض الواقع من خلال «تكافُئِيَّة» و«ترابطية» و«تشابكية» أجهزة ومؤسسات الحكم.
وأما مسألة وجود «سيادية ما» لوزارات (أو كيانات) بعينها ففيها تناقض مع المعايير السارية عالميا، وإن حدثت فهى ــ فى الأساس ــ نسبية، وأيضا مرحلية (أى مؤقتة وموقوتة)، حيث إن السيادية تكون فقط للدولة ككل، ولا يناظرها فى ذلك إلا «سيادية الشعب» الذى يُشَكل هذه الدولة (أو الأمة).

يتوافق مع هذا الفهم (أو الاعتبار) خلو الدساتير ــ فى جميع أو معظم دول العالم ــ من أية تمييز سيادى بين وزارة وأخرى.

حرج إشكالية السيادية فى بلدان الجنوب
معنى ألا يعلو أى كيان داخل الدولة بسيادية خاصة هو أن تتحقق الأمثلية فى الأداءات الكلية للدولة. وفى المقابل، مع ارتفاع سيادية أى كيان إلى مستوى مقاربة سيادية الدولة ككل يكون من الوارد أن تتعرض السياقات والمصالح العامة والخاصة لحيودات (و/أو انحرافات)، مما قد يقود إلى اهتزازات مجتمعية تتداخل مع القيم، وتنال من الرضا العام، وتؤذى الاستقرار المجتمعى، فضلا عن تعطيل عملية التقدم.
بمعنى آخر، تمثل التكافئية (أو المساواة) فى المسافة التى تربط ما بين الوزارات (أو الكيانات المؤسسية المتوازية) من جانب، وسيادية الدولة من جانب آخر، تراثا عالميا عريقا. أهمية هذا التراث (وخطورته) تكمن فى الحفاظ على تعظيم كفاءة صنع السياسات العامة، ومتابعتها، وتطويرها. وعليه، تُعد هذه التكافؤية إطارا رئيسيا (أو ماكينة) للتقدم.
ما ذُكر أعلاه عن كل من سيادية الدولة من جانب، و«تكافؤية» و«ترابطية» و«تشابكية» أجهزة ومؤسسات الحكم من جانب آخر، يمكن تشبيهه بالأوركسترا (أو بالفرقة الموسيقية).
فى أداء المقطوعات الموسيقية يخضع العزف على الآلات للتناغم بينها وبعضها، وفقا لتوزيع ممنهج ومطابق للنوتة الموسيقية. قد يتطلب هذا الأداء عزفا منفردا (سولو) من آلة معينة، والذى يكون محددا فى دوره وموقوتا فى مدته الزمنية. هذا العزف المنفرد يأتى متكاملا مع مهام بقية الآلات، ويكون مُنَفِذا لمتطلبات المقطوعة الموسيقية (المعروفة والمدروسة مسبقا بواسطة الفرقة).
وهكذا، لا سيادية من أية آلة على بقية الآلات، وإنما جميع الآلات تساهم معا فى الإنجاز طبقا لما تقتضيه النوتة الموسيقية، والتى تقوم بدور «الدستور»، أو ربما بدور «السياسة العامة»، عند المقابلة مع نموذج الدولة، الأمر الذى يجرى بإشراف «المايسترو» (أو برعاية القيادة العليا للدولة).
المسألة إذن ألا تسيد لآلة موسيقية (أو وزارة... إلخ) على بقية الآلات الموسيقية (أو الوزارات). ومهما تضاءل (أو ازداد) الحجم الزمنى لدور الآلة فى المقطوعة الموسيقية فلابد أن يكون مطابقا لما هو منوط إليها سلفا، بحيث لا تناقص ولا تزايد، وإلا فشلت المعزوفة (أو حادت الدولة عن مسارها).

النشاز والنشاز المعكوس
مما سبق يمكن استنتاج أن السيادية لوزارات (أو لكيانات قومية) قد تتداخل مع سيادية الدولة ككل، الأمر الذى قد يؤدى إلى ممارسات نشاز تنعكس سلبيا على السياسات العامة وعلى الأداءات القومية لباقى الوزارات (أو الكيانات).
وفى الأغلب يتصاحب مع هذا النشاز نشاز آخر نقيض، يمكن وصفه بالنشاز المعكوس.
يتجسد النشاز «المعكوس»، كظاهرة، فى«التدنى» الذى يحيق بأدوار ومهام بعض الوزارات (أو الكيانات) بحيث يُخفض من مكاناتها ومساهماتها تجاه المهام القومية إلى حد أن تصبح، من الناحية العملية، مجرد إكسسوار أو حلية.
الأضرار الناجمة عن إشكالية «التدنى» و«السيادية» فى بلدان الجنوب تكون أشد وأقسى ما يمكن إذا ما تضمنت تدنى لوزارات (أو كيانات) تختص بالبحث العلمى.
السبب يرجع (وببساطة) لما يمثله البحث العلمى كعنق زجاجة (أو عمود فقرى) فى عمليات التنمية وإحداث التقدم. الأمر الذى ينطبق على بلدان الشمال والجنوب على السواء.
وعليه، فمن المفترض أن ما تعانيه بلدان الجنوب من تأخر (أو تخلف أو عجز) يدفعها بالضرورة إلى أقصى عناية بالبحث العلمى، وليس تعريضه للتدنى.
بمعنى آخر، ومن المنظور السيادى، تعانى بلدان الجنوب من تعاظم الحاجة إلى تنمية سياديتها على نفسها. ذلك بينما الطريق الرئيسى لتنمية هذه السيادية يكمن أولا، وربما قبل أى شىء، فى «البحث العلمى»، والذى يعانى ــ كمجال ــ من ظاهرة التدنى.
وهكذا، يهدف الطرح الحالى إلى جذب الاهتمام للحاجة الحرجة فى بلدان الجنوب، وخاصة البلدان العربية، للإدراك بأن سيادية الدولة تكون منقوصة، وتظل بعيدة المنال (مهما مضى من زمن)، طالما ظلت أوضاع ومساهمات البحث العلمى بعيدة عن هذه السيادية.

السيادية العملية
ربما كاستنتاج يمكن القول بأن بلدان الجنوب بحاجة إلى الخروج من دوامة السيادية والتدنى لوزاراتها (ولمؤسساتها المتناظرة). وفى المقابل تكون السيادية العملية ــ إذا جاز التعبير ــ للمجال (أو للنشاط) الذى يُنَشط الارتقاء المتشابك (والمتناغم) لمساهمات جميع كيانات الدولة (من وزارات وقطاعات... إلخ) فى مقاومة التخلف وتحقيق أمثل (أو أعظم) لسيادية الدولة ككل، داخليا وخارجيا.
هذا المجال (أو النشاط) الذى يمكن أن يرقى بسيادية الدولة، من خلال دعم الارتقاء لكافة وزاراتها وكياناتها وقطاعاتها هو «البحث العلمى».
هنا تبزغ تساؤلات جديدة: أى بحث علمى هو المقصود...(؟)، وما نوع مساهمة البحث العلمى فى سيادية الدولة...(؟)، وماذا عن المسارات التى يمكن أن تكفل إنجاز ذلك...(؟). إنها تساؤلات تحتاج إلى تناولات خاصة.

التعليقات