موكب ملوك البشرية - مدحت نافع - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 6:28 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

موكب ملوك البشرية

نشر فى : الإثنين 5 أبريل 2021 - 9:30 م | آخر تحديث : الإثنين 5 أبريل 2021 - 9:30 م
شهد العالم يوم السبت الموافق الثالث من أبريل للعام 2021 ظاهرة بشرية نادرة، لا تقل بهاءً عن الظواهر الكونية التى يترقّب فيها المرء ميلاد كوكب أو اكتشاف نجم أو تراص مجموعة شمسية. فلقد تابع سكان الأرض كوكبة ملكية مصرية استثنائية، تحرّكت توابيتها فى نظام فريد، وسط أجواء احتفالية مبهجة مشرّفة، من مقر إقامتها بالمتحف المصرى بميدان التحرير، إلى متحف الحضارة المصرية بالفسطاط.
الموكب الملكى الجليل زيّنه اثنان وعشرون تابوتا ينتمى ساكنوها إلى الأسر من السابعة عشرة إلى العشرين، منهم الملوك (ثمانية عشر ملكا) ومنهم الملكات (أربع ملكات). فى المشهد المهيب تحرّك الملك رمسيس الثانى، والملك سقنن رع، والملك تحتمس الثالث، والملك سيتى الأول، والملكة حتشبسوت، والملكة ميريت آمون (زوجة الملك أمنحتب الأول)، والملكة أحمس ــ نفرتارى... وغيرهم وغيرهن ممن تحرّكت فى مواكبهم وائتمرت بأوامرهم أمم وشعوب، وزُيّنت بمآثرهم وبطولاتهم جدران المعابد والمسلات والهياكل والبرديات واللفائف. هم ليسوا كغيرهم من ملوك الشرق والغرب، الذين اقتصرت أعمالهم على الفتوحات والغزوات أو حتى البناء والتعمير، لأنهم قادوا وأسلافهم حركة الانتقال العظيم من التخلّف والهمجية إلى الحضارة والتنوير، وأشعلوا مصابيح الضمير والعلم فأورثوها للعالم من بعدهم ظاهرة مضيئة.
***
يقول عالم المصريات «جيمس هنرى برستيد» فى رائعته «فجر الضمير» التى ترجمها عنه العالم المصرى الدكتور سليم حسن: «وإنا معشر الأمريكيين على استعداد خاص لندرك ونقدّر الانقلاب العجيب، الذى جعل من الأرض القاحلة أرضا ذات مدن زاهرة... فإن آباءنا الذين قامت مجهوداتهم بإنشاء مدن عظيمة ثرية على طول أراضينا الشاسعة، إنما تسلّموا الفن والعمارة والصناعات والتجارة والتقاليد الحكومية والاجتماعية بطريق الوراثة عن أجدادنا الأوروبيين. ولكن فى ذلك العصر السحيق الذى نحن بصدده (يقصد عصر المصريين القدماء) بدأ الانتقال من الوحشية إلى المدنية بكل مظاهره الخارجية فى الفن والعمارة من لا شىء. وليست أهمية ظهور المدنية فى وادى النيل منحصرة فى بهاء مبانيها فحسب، بل لأنه كان أيضا تطورا اجتماعيا مستمرا دون أى عائق أكثر من ألف سنة، أشرق لأول مرة على كرتنا الأرضية، مقدما لنا أول برهان على أن الإنسان الذى هو أرقى المخلوقات الفقرية التى ظهرت على وجه البسيطة، أمكنه أن يخرج من الوحشية إلى المثل الاجتماعى الأعلى، ويظهر الحياة الإنسانية بمظهر لم ير الكون كله ــ على ما نعلم ــ أرقى منه».
وعن بعض مآثر هؤلاء الملوك والملكات (على غير ترتيب زمنى) يقول العالم المصرى أحمد باشا كمال فى كتابه البديع «العقد الثمين فى محاسن أخبار وبدائع الأقدمين من المصريين» الذى ورثت أقدم طبعاته عن الوالد ــ رحمه الله ــ وهى الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية ببولاق مصر المحمية سنة 1300 هجرية. يقول الفهّامة أحمد كمال أفندى (لقبه عند نشر الكتاب) عن الملكة حتشبسوت (أو أمنتحومت حعتشبسو): «ولمّا أقامت فى الحكم مقام أخيها، شرعت فى تشييد هياكل سمّتها باسمها، ورتبت لها القرابين الملوكية، وحافظت بحسن تدبيرها على الوجه القبلى والبحرى، وأخذت كأبيها الجزية من «الروتنو» وهم سكان سوريا الشمالية، ورسمت نفسها فى الآثار على هيئة رجل له لحية ملوكية مهابة، وكان لها قوة اليد على بلاد «الشام» و«الأتيوبيا» ولذا عزمت أيضا على أخذ بلاد «بون» وبلاد «تونترو» (جنوب بلاد العرب من جهة الهند) لتوسعة ملكها بتلك البلاد، الشهيرة بالأخشاب النفيسة والصمغ والعطريات والذهب والفضة واللازورد والحجارة النفيسة وجميع التجارات العظيمة، التى تحتاجها مصر لأشغال الهياكل والمعبودات وغيرها».
فيما قال عن الملك «تحتمس الثالث»: «ثم توجّه الجيش المصرى إلى «مجدو» وهى وقتئذ أعظم من ألف مدينة، فلم تثبت فى صف القتال غير أيام قليلة حتى سلّمت للمصريين. وبفتحها تمت الحرب، وأطاعه رؤساء «الشام» و«الجزيرة» و«الكرد»، وبادر الجميع بدفع الجزية وإظهار الانقياد والتعظيم للملك المنصور «تحوتمس الثالث».
وعن مآثر الملك «سيتى الأول» يقول أحمد باشا كمال: «اقتدى هذا الملك بأعمال جده «تحوتمس الثالث» فى تحصيل سموّ القدر لديار مصر، كما تشهد له بذلك نقوش ورسوم هيكل الكرنك، حيث يرى فيها أنه غزا ثانى مرة البدو المسمّين «شاسو» وأخذ منهم قلعة «كانانا» وكانت فوق الجبل بجبهة آسيا الغربية»... ويقول أيضا نقلا عن «ماسبيرو»: «أتت كهنة وأعيان ورؤساء الوجه القبلى والبحرى لمقابلة الملك والثناء عليه، عقب عودته من بلاد «أشوره» مصحوبا بعظيم الغنائم، شاكرين له على هذا الأثر الذى لم يروا مثله فى سالف أيامه، وقائلين رفعة لشأنه ومدحا لشهامته: لقد عدت من عند الأعداء بعد إيقاعهم، ونفذت أمرك فيهم، ونصرتك تتلألأ كالشمس فى السماء، فلينشرح صدرك بين الأقوام التسع الذين أظهرت لك الشمس حدودهم، وساعدتك حينما كان يعمل دبوسك فى وسط بلادهم، ويمحق سيفك فى رجالهم».
وعن الملك «رمسيس الثانى» ورد ما يلى فى كتاب العقد الثمين: «يقال لهذا الملك رمسيس الأكبر، ولقّب بذلك لأنه أكبر وأعظم ملوك مصر سلطة وقوة، وطالت مدة حكمه وكثرت فيها الآثار المصرية، وتزايدت العمارات حتى لا يكاد يوجد بوادى النيل أثر من الآثار القديمة والعمائر الشهيرة إلا وعليه اسمه ورسمه. وارتقى على كرسى الملك صغيرا فى حياة والده، ويؤيده ما هو مؤرّخ فى السنة الثالثة من حكمه بالنقوش على حجر مستكشف بقرب دكه ببلاد النوبة ونصها: إنك أيها الملك لما كنت طفلا صغيرا،
وكان لك جدائل مسبلة، ما كان أثر يعمل بدون رسمك، ولا أمر ينفذ من غيرك، ولما صرت غلاما وبلغ سنك عشر سنين، كانت كل العمارات فى يدك، وكنت أنت الواضع لأساساتها».
أما عن أهم ملوك الأسرة السابعة عشرة وهو الملك «تاعا الأول» الملقّب «رعسكنن الأول» والمعروف لدينا بلقب «سقنن رع» فهو واحد من ستة ملوك وطنيين بقى أثرهم من أصل 43 ملكا حكموا الوجه القبلى الأعلى، واتخذوا من مدينة «طيبة» عاصمة لهم، عندما كان الوجه البحرى وجانب من الوجه القبلى تحت حكم «الهكسوس». وعنه يقول الباشا: «اعلم انه لما تولى الحكم الملك «تاعا الأول» أراد أن يستقل بملك مصر، فأنشب الحرب مع ملوك الوجه البحرى، وساعده على ذلك جميع الأمراء الذين كانوا من أفخاذ العائلات الملوكية الوطنية فى الوجه القبلى، وجمعوا قوتهم معه حتى طردوا الرعاة شيئا فشيئا من مصر الوسطى، وأوصلوهم إلى مدينة «منف». ولما شاهد الملك من هؤلاء الأمراء الصداقة وحب الوطن، جعلهم نظّارا على أقسام مملكته».. ووفقا لمؤلف «العقد الثمين» فقد أعقب ذلك محاولات عدة لإخراج «الهسكوس» من مصر، نجح بعضها فى إخراجهم من «منف» إلى حصنهم المنيع فى مدينة «أواريس» (فى المنطقة الشمالية الشرقية من الدلتا) التى استقروا بها دهرا فى مأمن من هجمات الملوك الوطنيين. ثم يقول: «حتى قام عليهم «رعسكنن الثالث» (الموجودة جثته الآن بمتحف بولاق) ثم «كامس» وغيرهما من ملوك هذه العائلة غير المعلومين لنا، فلم يستطيعوا إخراجهم من ذلك المعسكر، وبقى الحكم فى أيدى ملوك الرعاة فى جهة «أواريس» وضواحيها حتى تغلّب عليهم «أحعمس الأول».
***
وهكذا استقبل رئيس الجمهورية جثامين هؤلاء الملوك والملكات العظام فى حفل ملكى أسطورى، يليق بتاريخ مصر وحضارتها ذوقا وفنا ورقيا، ثم استودعها مرقدها البهى المحفوظ بالمتحف القومى للحضارة المصرية، الذى يقع بالقرب من حصن بابليون، ويطل على عين الصيرة فى قلب مدينة الفسطاط التاريخية بمنطقة مصر القديمة بالقاهرة. وسوف تعرض مقتنيات المتحف فى معرض رئيس دائم، يتناول أهم إنجازات الحضارة المصرية، بالإضافة إلى ستة معارض أخرى تتناول موضوعات: الحضارة، والنيل، والكتابة، والدولة والمجتمع، والثقافة، والمعتقدات والأفكار، بالإضافة إلى معرض المومياوات الملكية الذى من أجله تم إعداد هذا الموكب، وبفضله حظى المتحف الذى وضع حجر أساسه عام 2002 بافتتاح عالمى كبير سيذكره التاريخ أبد الدهر.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات