فى تسعينيات القرن الماضى بدأ انتقال مركز ثقل الدراما التلفزيونية إلى شهر رمضان، دون غيره من شهور السنة.
كان ذلك تطورا سلبيا على صناعة الدراما التلفزيونية أضفى عليها صفة الموسمية كأفلام الأعياد التجارية التى تعد على عجل لنوع معين من المشاهدين.
فى ذلك الوقت احتج أهم كاتب درامى تلفزيونى «أسامة أنور عكاشة» على رهن المسلسلات التلفزيونية لمواسم بعينها وقطع تتابع مشاهدها بفواصل إعلانية تأخذ مساحات زمنية أطول مما تستغرقه الدراما نفسها، غير أن أحدا لم يلتفت إلى احتجاجه بدواعى الاستثمار فى نسب المشاهدة المرتفعة نسبيا بشهر رمضان.
هكذا تراجع ما هو فنى لصالح ما هو تجارى وتقوضت الدراما التلفزيونية وفقدت مصر جانبا كبيرا من قوتها الناعمة فى عالمها العربى.
الاستثمار الإعلانى من ضرورات الصناعة، غير أنه إذا أصبح وجهها الرئيسى ضربت فى صلبها.
تحت الحجر المنزلى ارتفعت بالضرورة هذا العام نسب المشاهدة، غير أن المشاهدين بدوا كأسرى ورهائن لإعادة إنتاج أفكار درامية متهافتة أو مستهلكة باستثناءات تؤكد القاعدة.
بدا مسلسل «الاختيار» الأكثر إثارة للاهتمام العام والمساجلات المفتوحة على شبكة التواصل الاجتماعى بما حمله من أفكار جديدة وغير معتادة تمزج بين التوثيق والدراما.
«الاختيار» بين رجلين من جيل واحد، تعارفا فى الخدمة العسكرية بسلاح الصاعقة، غير أن كليهما اختط طريقا مختلفا فى الحياة، أحدهما «أحمد منسى» مات شهيدا فى المواجهات المسلحة مع الجماعات الإرهابية فى سيناء.. والآخر «هشام عشماوى» جرى إعدامه بتهمة الانخراط بتنظيمات إرهابية قتلت وروعت.
الدراما بنت التناقض والفكرة تنطوى على قماشة واسعة تسمح دون مواعظ أو دعايات بتنوير الرأى العام بحقائق الحرب مع الإرهاب، غير أن العمل الفنى لم ينج تماما من مطبات المباشرة.
تبدت التباسات فى مفهوم الحرب مع الإرهاب، كأننا أمام نموذجين كل منهما له تفسير مختلف للدين يقرر أين يقف.
التركيز على هذا الخط يجد منطقه فى محاولة دحض أى تأويل للمقدس الدينى لانتهاك حياة مواطنين أبرياء أو جنود يؤدون واجبهم، غير أن الإفراط فيه أدى إلى شىء من التشويش على طبيعة الحرب، فالجيش المصرى بتكوينه التاريخى جيش وطنى لا أيديولوجيا ولا دينيا، يدافع عن الأمن القومى ويحفظ سلامة أرضه ومواطنيه، بغض النظر عن انتمائهم الدينى.
أفضل ما فى المسلسل، التى توافرت له قدرات إنتاجية غير مسبوقة، أنه أظهر طبيعة المواجهات المسلحة فى سيناء، حرب حقيقية بالسلاح المتقدم، وليست محض مواجهات مع «مجموعة صيع»، بتعبير ورد على لسان بطله «المنسى».
ما بين الدراما والواقع هناك من اعتبر بالتوقيت عملية «بئر العبد» الإرهابية جنوبى سيناء ردة فعل على تأثير المسلسل على قطاعات واسعة من الجمهور.
كان ذلك تعسفا فى الاستنتاج، فالإرهاب لا يبحث عن ذريعة، فهو يكمن ويخطط حتى يجد فرصة أمامه ليضرب ويروع.
وما بين الفن والسياسة تبدى نوعان من النقد، الفنى وهو مشروع وطبيعى لأى عمل درامى بإخضاعه للمعايير المتعارف عليها، أو حتى لذائقة الناقد أو المشاهد.. والسياسى وهو يتوقف إلى حد كبير على الموقف من الأحداث المعاصرة للغاية التى يتناولها المسلسل.
بغض النظر عن أى تقويمات فنية، فإن البطل الحقيقى للمسلسل «أحمد منسى» ولدت أسطورته فى ميادين المواجهة لا على شاشات التلفزيون، فى عيون زملائه وجنوده قبل أن يتعرف الرأى العام على شىء من سيرته، غنوا له وهتفوا باسمه بعد استشهاده قبل أن يذكر الإعلام اسمه.
جرى الربط بين «أحمد منسى» فى الحرب ضد الإرهاب و«إبراهيم الرفاعى» فى حربى الاستنزاف وأكتوبر، كلاهما من أبطال الصاعقة، التى يرتبط مقاتلوها تحت الخط الفاصل بين الموت والحياة بأعلى درجات التوحد الإنسانى.
قصة «الرفاعى» كتبها الأديب الراحل «جمال الغيطانى» فى أواخر سبعينيات القرن الماضى وأسطورته رواها رجاله كنوع من الاعتزاز بأنهم كانوا هناك يحاربون بجانبه لتحرير بلادهم من الاحتلال الإسرائيلى.
فى مسلسل آخر «النهاية» جرت إشارة إلى أن إسرائيل بعد مائة عام لن تكون موجودة، والولايات المتحدة تفككت، المسلسل مزيج من الخيال العلمى وفنون الجرافيك وعوالم «جورج أوريل» المقبضة فى ممارسة السلطة.
اختيرت «القدس» محلا لحوادث المسلسل خشية أن يفضى اختيار أى عاصمة عربية أخرى إلى مصادرة المنتج الفنى نفسه.
لم تكن الإشارة إلى زوال إسرائيل صلب العمل التخيلى، ولكنها عبرت عن أفكار المؤلف وتوجهاته.
الخارجية الإسرائيلية احتجت والمتحدث الرسمى باسم الجيش الإسرائيلى «أفيخاى أدرعى» كتب على حسابه: «يتحدثون ويعملون مسلسلات خيالية بينما نحن نصنع المعجزات يوما بعد يوم، شاء من شاء وأبى من أبى ستبقى إسرائيل أبد الآبدين».
ردة الفعل تكشف شعورا دفينا بالهشاشة وأن مستقبل الدولة العبرية ليس مؤكدا رغم ما يتبدى اليوم من ضعف عربى فادح ومريع.
بالتوقيت نفسه بثت محطة «MBC» مسلسلا وصف على نطاق واسع بأنه تطبيعى يمهد لعلاقات أكثر دفئا بين دول الخليج وإسرائيل.
استدعى مسلسل «أم هارون» ردات فعل شعبية فى الخليج أكدت على الالتزام بالقضية الفلسطينية ورفض أى تطبيع مع إسرائيل، وجرى منع عرض المسلسل فى الكويت.
فى المسلسل استبقت السياسة الدراما وقفزت إلى الرسائل فى مونولوج مطول قبل أى مشهد درامى.
أدان المونولوج على لسان الراوية «أم هارون» «الصراعات التى تشدنا للحقد والكره والقتل».
أخطر ما فى المسلسل طمسه لحقائق الصراع وانتحال «نوستالجيا» ليهود الخليج لتسويغ التطبيع مع الجلاد الإسرائيلى على حساب الضحية الفلسطينية.
من المثير للالتفات أن الممثلة الكويتية المخضرمة «حياة الفهد»، التى لعبت دور «أم هارون»، دعت عند بدء تفشى الوباء إلى «رمى العمالة العربية فى الصحراء».
ما بين «الاختيار» و«أم هارون» تناقضت رؤى ومعالجات، الإرهاب ومن خلفه، التطبيع ومن يدعو له.
هناك أسئلة حقيقية فى قدر التناقضات الدرامية: كيف وصلنا إلى هنا؟.. وما مسئولية السياسة فى إهدار النتائج العسكرية لحرب أكتوبر وخلط الأوراق وتفشى الإرهاب فى سيناء والمضى قدما فى التطبيع المجانى؟
نوع آخر من الأسئلة تطرحها برامج تلفزيونية يفترض أنها تنتسب إلى صناعة الترفيه فإذا بها تنتهك الكرامة الإنسانية على نحو فادح، كما يحدث فى برنامج «المجنون الرسمى»، الذى تبثه محطة «MBC مصر».
أخطر هذه الأسئلة التى لا بد أن تخضع لمراجعات سياسية وقانونية واجتماعية ونفسية: هل يجوز إهدار الكرامة الإنسانية لضيوف أى برنامج، شخصيات فنية أو رياضية أو من المواطنين العاديين، بغض النظر عن موافقتهم، أو تلقيهم أموال طائلة مقابل ما يتعرضون له من مهانات مشينة؟
فى تسعينيات القرن الماضى نشب سجال سياسى وقانونى بفرنسا حول رياضة «تقاذف الأقزام»، التى يتبارى المتسابقون فيها فى قذف الأقزام لأطول مسافة ممكنة.
مطلع القرن الحالى قضت المحكمة الإدارية العليا بمنع تلك الرياضة باعتبارها انتهاكا للكرامة الإنسانية والنظام العام، بغض النظر عن موافقة الذين يجرى قذفهم مقابل أموال يحصلون عليها.
وفق الدستور المصرى فإن «الكرامة حق لكل إنسان، ولا يجوز المساس بها، وتلتزم الدولة باحترامها وحمايتها».
رغم أن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام ونقابة الإعلاميين والرقابة على المصنفات الفنية ومستشفى العباسية العريق للصحة النفسية اعترضوا واحتجوا على ما يحتويه برنامج «المجنون الرسمى» من سادية وعنف واستخفاف بالكرامة الإنسانية بما يكرس التعذيب أمرا اعتياديا، فإن المحطة لم تعر هذه الاعتراضات والاحتجاجات أى اهتمام، وصرحت رسميا بأنها سوف تمضى فى بث البرنامج، ومن لا يعجبه ليدر وجهته إلى محطة أخرى.
كان ذلك استخفافا لا يصح ولا يليق، كأن المحطة دولة فوق الدولة، أو محمية سياسية تستعصى على الحساب والمساءلة وفق القواعد القانونية.
الكلام كله يستحق التوقف عنده بالحزم اللازم حرصا على هيبة الدولة المصرية والكرامة الإنسانية قيمة عليا ممنوع تجاوزها بأى اعتبارات وذرائع.
إذا لم تكن الكرامة الإنسانية مصانة بالالتزام الدستورى فإن «الاختيار» سوف يكون فى هذه الحالة بين السيئ والأكثر سوءا.