حول الميدان وإغلاقه - أهداف سويف - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 2:31 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حول الميدان وإغلاقه

نشر فى : السبت 6 أغسطس 2011 - 8:36 ص | آخر تحديث : السبت 6 أغسطس 2011 - 8:36 ص

 وصلت التحرير يوم الاثنين، حوالى الواحدة ظهرا، وقد قامت القوات المسلحة بهدم المدينة الصغيرة التى قامت هناك، وطرد أهلها بعد اعتصام دام ثلاثة أسابيع.

الحقيقة أن الكل كان يعرف، منذ يوم الجمعة، أن شيئا سيحدث، وأن الميدان سيُفتَح بشكل أو بآخر، فالشائعات كانت تتابع حول الفِرَق التى سوف ترسل لفض الاعتصام، ومبادرات التفاهم، والعروض البديلة كانت تتوالى، وبالذات عن طريق مجهودات الدكتور عمرو حلمى الذى فوضه الدكتور عصام شرف ليكون حلقة الوصل فى تعامل الوزارة مع الثوار.

وكان الميدان قد تمحور (كما وصفت فى الأسبوع الماضى) حول أهالى الشهداء، وكان الشباب الناشط يعلن أن القرار ــ قرار البقاء أم الرحيل ــ قرار الأهالى، وكان الأهالى، بوجه عام، مصرين على البقاء فى الميدان إلى أن يتم «حبس» عدد من ضباط وأمناء الشرطة يقولون إن بعضهم هو المسئول مباشرة عن قتل أبنائهم، وأن بعضهم يقوم الآن بمحاولات إما لاستمالتهم أو ترويعهم ليتنازلوا عن حق أبنائهم المعنوى لقاء (جزء من) حقهم المادى. بعض الأهالى مُسَيس ويرى فى الاعتصام ورقة ضغط تقربه من نيل القصاص، البعض مكلوم ومدفوع أن يبقى فى صحبة من هم فى نفس الحال، والكل يضيق بالبيت الذى ثقل عليه الحزن ويجد متنفسا أوسع فى الميدان.

بين الجمعة بعد الظهر وصباح الاثنين كان النقاش النقاش النقاش الذى لا ينتهى. ولم يكن فض الاعتصام فى الحقيقة هو الطرح، وإنما كان تعليقه ــ وبالذات أثناء شهر رمضان. وكانت المجموعات المختلفة تصل الى قرار التعليق، ثم تتراجع عنه. كان قرارا صعب الاتخاذ؛ فهو يعنى فض (ولو مؤقتا) «حالة» الميدان، وهى حالة مجموعية، لها زخم وطاقة وحيوية إيجابية (بالرغم من المثالب التى بدأت فى الظهور فى المكان)، وهو يعنى الاستعداد للحشد لإقامة الاعتصام مرة أخرى بعد رمضان إن لم تتحقق مطالب الميدان ــ والأرجح أنها لن تتحقق خلال أربعة أسابيع أو ستة.

وكان هناك طرح وسطى يقترح نقل خيام الناشطين الذين يريدون تكملة الاعتصام إلى موقع بجانب خيام أهالى الشهداء الى جوار المجمع، والسماح بإخلاء الصينية وفتح الميدان. وكان هذا الطرح يكتفى بإغلاق الميدان المركزى والأكبر قى ثالث أكبر مدينة فى العالم لمدة ٣ أسابيع، ويراعى ضيق أهل المنطقة المتزايد لقفل الميدان ــ وبالذات أصحاب الأعمال و المحال التجارية منهم والبلد داخلة على رمضان، فيهدف الى الاستجابة لهم واسترضائهم، مع الحفاظ على التكتل حول أهل الشهداء الذين لا يريدون المغادرة وإبقاء وجود تمثيلى للاعتصام فى الميدان مع إبطال الحجة القائلة بان غلق ميدان التحرير هو المتسبب فى أزماتنا كلها من المرور فى القاهرة الى الاقتصاد فى عموم البلاد.

وكاد هذا الطرح يغلب لولا عدد بسيط ممن تشددوا، ورفضوه وأصروا على استمرار الإغلاق، وكان هؤلاء فى أغلبهم ممن يعملون فعلا على أمن المداخل، وكان منهم أفراد من الشباب الناشط العامل فى الحملات والنشاطات المختلفة من البداية، والبعض ليس معروفا من قبل لكنه شارك بالتأكيد فى نشـاطات الميدان وفى حمايته منذ بدأ الاعتصام. ويوم الاثنين رأينا بعض هؤلاء وهم يرتدون سترة وخوذة الجيش ويتعاملون مع جنوده بألفة.
وهنا تتبدى مشكلة حقيقية، نابعة فى الأساس من بعض أكثر عناصر هذه الثورة إجمالا.

فالإصرار على أفقية التنظيم والتعامل كان معناه هنا عدم وجود آلية لتفعيل قرار ديمقراطى بالفعل: فالأغلبية كانت ترى ضرورة نقل الاعتصام إلى زاوية، وفتح الميدان ــ ولم تنجح فى تنفيذ هذا.
والإصرار على الانفتاح وعدم التخوين ونبذ الرواسب الطبقية أدى إلى تمكن البعض من اختراق الصفوف ــ ويعلم الله ماذا كان دور هؤلاء المخترِقين فى استمرار إغلاق الميدان حتى ظهر يوم الاثنين.

والإصرار على التضامن، والتصرف بشكل جمعى، والبقاء فى الموقع طالما بقى فرد من المجموع فى الموقع أدى فى النهاية إلى بقاء غالبية الشباب ــ وهم مستمرون فى محاولة إقناع القلة ــ فى موقع كانوا قد ارتأوا صواب أن يتركوه.
أتصور أن هذه الإشكاليات:

محاولات البحث عن التوازن بين المثالى والعملى، ومحاولات تفعيل الموقف الأخلاقى، هى فى صميم الجهد الإنسانى دائما، وتتبلور أو تنفجر فى أوقات الحراك المجتمعى والسياسى الضخم كالتى نمر بها الآن. وبالتالى فتجربة غلق ثم اقتحام الميدان ليست بالضرورة تجربة سيئة ــ طالما تعلمنا منها أو أخذنا منها شيئا مفيدا. أقول هذا رغم ألم التجربة.

بعد ظهر يوم الاثنين كان منظر الميدان مثل مشاهد السينما بعد مرور جيش الأعداء على قرية أو مخيم: عاليها واطيها، الخيام والأعلام والرايات واللافتات تحولت كلها الى حطام على الأرض، جنود الجيش والأمن تنتشر فى المكان تحمل عصيا خشبية سميكة طويلة، بعض المدنيين يحاولون التفاهم أو الاعتراض، بعض أهالى الشهداء يحاولون العودة إلى أماكنهم، بعض المارة يؤيدون العسكر ويتشفّون، ومن حين لآخر ترى شـابا يدفعه جنديان أو أكثر نحو مدرعة، أو ترى جنديا ينهال تكسيرا على كرسى مسكين أو ترابيزة بسيطة.

كان الشباب قد أسسوا «سينما ميدان التحرير»، فبنوا شاشتها بأيديهم، واستعاروا معداتها من بيوتهم وأهاليهم، وأقاموها كل ليلة، يعرضون تسجيلات وأفلام الثورة، فكانت ذاكرة وتذكرة للجميع، وأداة لتقوية الشعور بوحدة الهدف، تقوم بالواجب الذى تقاعس عنه، بل خانه، الإعلام الرسمى للدولة المصرية ــ حتى بعد النجاح المفترض للثورة. رأيت شاشـة السينما فى الأرض وقد هشمها جيشنا، والكابلات مرمية مقطعة الأوصال. كانت الشاشة والأجهزة جزءا أيضا من أحداث «تحرير ندوة» و«تويت ندوة»، التى جمعت أهل الميدان وزواره فى نقاشات مجتمعية وسياسية من أرقى ما حضرت فى حياتى.
رأيت شاشة السينما فى الأرض ثم رأيت طفلا ببطانية مكدس داخلها بعض الأشياء، يبكى وهو يمشى ويسحبها وراءه.

بعد ذلك رأيت الأطفال الآخرين ــ أولئك الأطفال الذين لا نراهم إلا كمضايقات أو وخزات ضمير عابرة وهم يحاولون بيعنا مناديل ورق أو حزمة نعناع عند إشارة المرور، الأطفال الذين تشفع لهم الميدان عند حياتهم القاسية فعقد لهم هدنة معها استضافتهم فيها الممرات التى توسطت الخيام فى الصينية، وأشركهم الثوار الشباب فى «الإعاشة» وفى الفعاليات والمسئوليات، فصاروا يوصلون الأسلاك ويفرشون الحصر ويمسكون الكاميرات، وأُنشِئت لهم فصول أقبلوا عيها ليتعلموا القراءة والكتابة.. كل هذا أصبح خرابا.

سيعلق بعض القراء بقصص سمعوها عن الترامادول والباعة الجائلين والخناقات والبلطجة ــ والرد هو أن هذه آفات المجتمع وليست آفات الميدان، وأنها تأخرت فى دخول الميدان وظلت هامشية تماما فيه، وأنها ــ على كل حال ــ من سمات المجتمع، ويجب علينا التعامل معها بالشكل الذى يمليه تصورنا للمجتمع الذى نريده والذى قامت الثورة من أجل بلورته وتحقيقه.

يوم الاثنين كان الميدان مسـرحا لصراعات مختلفة، دخلْت طرفا فى إحداها حين وقفت على ناصية مطعم هارديز مع الشباب، وكنا نستخرج من هواتفنا أرقام الأصدقاء من محاميى حقوق الإنسان لنتصل بهم لإخطارهم بالشباب الذى نراه يسحب إلى المدرعات. وفجأة تفجر ثلاثة من الرجال متوسطى العمر مفتولى العضلات بالأسئلة الاتهامية: هما مين دول؟ انتو مين؟ أنا شفتهم بيتكلموا فى التليفون.. أجانب دول ولا إيه؟ (احنا مصريين يا عم) مصريين إيه دول؟ شوف حتى شكلهم عامل إزاى! ثم واحد ــ أدركت أنه يتحدث عنى:
«هى دى هى».

وكان الكل يزعق فزعقت أنا كمان: أنت عايز إيه بالظبط؟ قال، وعينه فى عينى: «أيوة انتِ، وأنا بقى شاهد عليكى إنك عمالة تشتمى».. فتساءلت، وقد تملكنى عجب حقيقى وغير مناسب بالمرة لتلك اللحظة «باشتم مين؟» اختلجت عيناه لحظة، ثم قال: «بتشتمى الشعب المصرى». والحقيقة إنى بدأت ساعتها أشتمه بصوت عالٍ جدا لم أتعرف عليه. ثم تدخل الجيش وكان دوره أنه يبعدنا أنا والشباب الداخل فى الخناقة، فدفعنا برفق إلى شارع محمد محمود.

دفعنا برفق. ولكنه لم يترفق يوم الثلاثاء بالمواطنين فدار يضربهم بالعصى بعشوائية فى الميدان والشوارع المحيطة به، ولا بالأهالى الذين حاولوا العودة الى الميدان ليفطروا معا ومع المتضامنين فى الصينية: كانت الفكرة موائد رحمن ثورية لأهالى الشهداء والمتضامنين معهم وعابرى السبيل. منعهم الجيش، ومنع عنهم الأكل الذى أحضره متضامنون، ثم تتبعهم إلى جامع عمر مكرم، ودخل المسجد بالأحذية ليخرجهم منه، وضربهم واستولى على ممتلكاتهم ــ والمفجع أن بعض هؤلاء الأهالى متقاعدون من القوات المسلحة، حاربوا فى ١٩٦٧ وفى ١٩٧٣، وأحدهم لا تزال الشظية فى ساقه.

وتستطيعون رؤية شهادته التى أدلى بها فى مستشفى العجوزة مساء الثلاثاء على اليوتيوب فى:http://www.youtube.com/watch?v=ilyJAAwG74U
أما الأربعاء، فقد التف المصريون كلهم حول شاشات العرض، وشهدنا الجلسة الأولى فى محاكمة محمد حسنى السيد مبارك، الرئيس المخلوع وابنيه. وأعتقد ان معظمنا شعر بالفخر بالشكل والأداء المهنى والمتحضر للمحكمة وإدارتها، وبالأداء الموزون والمحترم لنا كشعب، نحن الذين ــ خلاف قذف الحجارة المعتاد الذى قام به «أنصار» الرئيس المخلوع ــ تصرفنا باتزان أخلاقى سيحسبه لنا التاريخ والعالم، كما حسب لنا ثورتنا المثالية. وأعتقد ان معظمنا أيضا يدرك أنه لولا الضغط الدائم والمستمر الذى شكله اعتصام التحرير، وفعالياته، ولافتاته، ومسيراته، لم نكن لنصل الى مشهد الأربعاء المهيب.

وفى مساء الأربعاء، مررت بميدان التحرير فرأيت الشعب يتكدس على الحواف مستبشرا، والمدرعات تتخذ مواقعها على دوران الميدان، والأمن المركزى يحمى الصينية من الشعب. ماشى. مرحلة نمر بها.

ولتدارك خلو الميدان من الثورة ومن اللافتات، وجبت التذكرة بما ننتظره الآن ممن بيدهم الأمر:

١ــ أن يلمس الناس توجهات وإجراءات تعطيهم الثقة فى أن السلطات تتجه نحو البدء فى طريق تحقيق الأهداف الكبرى للثورة مثل الانتخابات الحرة والعدالة الأجتماعية. وكانت علامة مهمة جدا بدء المحاكمات يوم الأربعاء.

٢ــ أن تنطلق بالفعل إجراءات عاجلة تؤدى إلى استقرار البلاد ــ مثل التعامل الحاسم والواسع النطاق مع وزارة الداخلية والجهاز الأمنى ــ فبدون الاستقرار لن نتمكن من البدء فى تحقيق أهداف الثورة.

٣ــ أن نرى أسسا جديدة قانونية وإنسانية، للتعامل بين السلطة والشعب، وهى حزمة المطالب التى تندرج تحتها موضوعات الشهداء والمصابين والمحتجزين والمحاكمين عسكريا.

من المفارقات الحزينة والصعبة أن يأتينى الآن، وأنا أكتب هذا المقال، خبر استشهاد الشاب محمد محسن أحمد، ٢٣ سنة، من أسوان. أصيب محمد إصابة بالغة فى الرأس فى العباسية يوم ٢٣ يوليو ففقد الوعى. وصعدت روحه إلى بارئها يوم الخميس ٤ أغسطس. ندعوا الله عز وجل بالرحمة له ولشهدائنا جميعا وبالصبر لأهله، ونتعهد بأن نظل مطالبين بحقه، فيوم أن يأخذ كل شهيد وكل مصاب حقه المعنوى الكامل، من قصاص ومن تقدير، هو يوم نطمئن أن ثورتنا استقرت فى مسارها الصحيح.

التعليقات