«مواويل الليلة الكبيرة».. مرثية الجيل الضائع - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 4:09 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«مواويل الليلة الكبيرة».. مرثية الجيل الضائع

نشر فى : السبت 6 أغسطس 2022 - 7:25 م | آخر تحديث : السبت 6 أغسطس 2022 - 7:25 م

ــ 1 ــ
لعل المفكر والناقد الراحل غالى شكرى واحد من أغزر وأعمق مفكرينا المعاصرين الذين غطوا بإسهاماتهم النظرية والتحليلية مساحات عريضة وواسعة من الفكر المصرى والعربى، لم يشاركه فيها أحد، ولم يقرب منها أحد حتى وقتنا هذا!
من بين إنتاج المرحوم غالى شكرى الزاخر والقيم روايته اليتيمة «مواويل الليلة الكبيرة» التى صدرت طبعتها الأولى فى بيروت عن دار الطليعة عام 1985، وفى حدود علمى، فإنها منذ هذا التاريخ لم يُعد طبعها إلا منذ أسابيع قليلة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.
مثله مثل المفكر والناقد الراحل لويس عوض؛ كان غالى شكرى مشغولا ومهجوسا بقراءة وتحليل الواقع المصرى والعربى طيلة ما يقرب من نصف القرن؛ متخذا من ميادين النقد الأدبى وعلم اجتماع الثقافة وتاريخ الأفكار (أو علم اجتماع المعرفة بصيغة أشمل) إطارا للتأسيس المعرفى والتنظير والتحليل.
ومن ينسى أطروحته التى نال عنها الدكتوراه من السوربون «النهضة والسقوط فى الفكر المصرى الحديث» أو فى استكمالاته المهمة فى «الثورة المضادة» أو «أقواس الهزيمة». عشرات الكتب والمؤلفات التى اتسمت بعمقها وانضباطها ومنهجيتها وقدرتها التحليلية على قراءة الظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية التى عاناها المجتمع المصرى منذ بواكير النهضة فى القرن التاسع عشر وحتى رحيله.
ــ 2 ــ
غطت شهرة غالى شكرى ناقدا ومفكرا على إسهامه «روائيا» بروايته «مواويل الليلة الكبيرة»، وهو الذى كان أحد نجوم النقد الروائى المصرى والعربى، وصاحب الإسهامات الأصيلة فى درس ونقد وتحليل النتاج الروائى العربى منذ أربعينيات القرن الماضى، وحتى العقد الأخير منه.
وفى ظنى، فلا يمكن قراءة روايته «مواويل الليلة الكبيرة» بمعزل عن كامل رؤيته الفكرية والاجتماعية والسياسية التى كانت توجه كتابته فى مجملها. فإذا كان غالى شكرى قد واجه سؤال النهضة فى العديد من كتبه التى حاول من خلالها، أن يفكك معرفيا العناصر التى تنطوى عليها صيغة النهضة؛ فإننا يمكن القول إنه واجه ذات السؤال جماليا وإبداعيا فى «مواويل الليلة الكبيرة» محددا نطاقه الزمنى المرجعى بزمن النهضة والسقوط؛ ما بين أربعينيات القرن الماضى وحتى مطالع الثمانينيات من القرن العشرين.
يمكن اعتبار الرواية نموذجا مختلفا وفريدا من نماذج الرواية السياسية التى تقوم على طرحٍ نقدى تحليلى للواقع السياسى والاجتماعى فى مصر والعالم العربى (تحديدا خلال الحقبة الناصرية وما تلاها)، فيما يعد (أو يمكن اعتباره) موازاة جمالية لفكرته الرئيسية عن النهضة والسقوط فى الفكر المصرى والعربى الحديث، والتى تقوم على افتراض أن صيغة النهضة تحمل فى داخلها بذرة للنمو، وفى الوقت نفسه تحمل جرثومة السقوط!
ــ 3 ــ
وإذا كان إشكال المثقف والسلطة أحد انشغالات غالى الأصيلة، فإنه يبرز هنا كأجلى ما يكون فى «مواويل الليلة الكبيرة»؛ باستدعاءٍ لافت وحاشد لعديد من المثقفين (كتابا، وشعراء، وروائيين، ونقادا... إلخ) ليُنطقهم بسرد رواياتهم هم، وحكاياتهم هم، عن هموم الوطن وأحلامه وانهياراته وانكساراته التى اعتصرت بقبضة لا ترحم قلوبهم وأرواحهم.. وتتحرك هذه الروايات المتعددة، داخل النص، مستعيرة خطابات داخلية لهؤلاء جميعا مانحة إياهم مساحات متكافئة تقريبا، يصبحون فيها رواة مستقلين يروون فيها تاريخا آخر التاريخ الرسمى، ويرصدون وقائع مستترة وراء الوقائع المعلنة، ويعبرون فى النهاية عن تلك البوتقة الهائلة التى تفاعلت وانصهرت فيها تيارات وتوجهات شتى، وعوامل بقاء وفناء شتى، فى حقبة حافلة تمتد عقودا طويلة من الأربعينيات وحتى أوائل الثمانينيات من هذا القرن، وقت غزو إسرائيل للبنان.
إن هذه الرواية، وكما يلتقط بحساسية فائقة الناقد د.حسين حمودة، تستنهض تجارب وأصواتا متنوعة، متناغمة ومتعارضة فى آن، لعددٍ كبير من الساسة الأحياء (نُشرت قراءة حمودة فى منتصف تسعينيات القرن الماضى) وأيضا الأموات، ممن صاغوا حركة التاريخ السياسى والثقافى المصرى والعربى، أو كانوا ضحايا لهذا التاريخ.
فمن شهدى عطية إلى غسان كنفانى، ومن جمال عبدالناصر إلى راشد الخاطر، ومن على فودة إلى إسماعيل المهدوى، ومن مصطفى خميس إلى أمل دنقل، تتحرك الروايات المتعددة داخل هذه الرواية، مستعيرة «خطابات» داخلية لهؤلاء جميعا، مانحة إياهم مساحات متكافئة تقريبا.
ــ 4 ــ
ولربما كانت «مواويل الليلة الكبيرة» من الروايات القليلة التى حاولت أن تقرأ وتتأمل مغزى ودلالات حوادث ووقائع معلنة فى التاريخ السياسى والاجتماعى والثقافى لمصر فى الثلث الأوسط من القرن العشرين؛ مثل فصل «الربابة بأبو زعبل» على لسان المناضل الشيوعى الأشهر شهدى عطية الشافعى قبيل موته جراء التعذيب (أو غير معلنة كما فى حال أحداث كمشيش ــ على سبيل المثال ــ التى يعرض لها غالى شكرى على لسان صلاح حسين فى فصل «بكائية على ناى كمشيش»).
وذلك، كما يرصد حمودة، من خلال المراوحة بين خطابات «المونولوج» الذاتى الاعترافى، وخطابات «الديالوج» الحوارى، وهى مراوحة تجعل هذه الخطابات، تبدو فى بعدٍ من أبعادها، مغلقة على ذاتها، مثقلة بنبرة الاعترافات الخاصة، مُسيجة بمنطق كتابة المذكرات الخاصة، أو شبيهة ببوح داخلى فى حجرات مظلمة، كما تبدو فى بعدٍ آخر خطابات معلنة موجهة إلى آخرين، مروى عليهم مفترضين، تتوجه إليهم فى لحظات من تماس عابر، استثنائى، كأن هذه الخطابات بذلك، بمثابة شهادات للتاريخ، عن الذوات وعن الآخرين، عن عوامل داخلية خاصة بهؤلاء جميعا، وعن الفترة التى احتوتهم، وعن العلاقات التى أثرت فيهم، وتأثرت بهم، فى آن.
ــ 5 ــ
لقد ظل غالى شكرى، فى كل ما كتب؛ فكرا ونقدا وإبداعا، أحدَ حاملى هموم هذا الوطن الحالمين بمستقبل أفضل، وسعى نحو الحضارة والتقدم لا يكل ولا يمل؛ وهو فى أشد لحظات يأسه وإحباطه كان مقاوما بالإبداع، وساعيا لتجاوز شروط التخلف بالخيال والفكر والإبداع والنقد معا.