توفيق الحكيم وعودة الوعى ! (10) - رجائي عطية - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 4:27 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

توفيق الحكيم وعودة الوعى ! (10)

نشر فى : الأربعاء 6 نوفمبر 2019 - 9:50 م | آخر تحديث : الأربعاء 6 نوفمبر 2019 - 9:50 م

لا شك أن ما ساقه الأستاذ توفيق الحكيم من أسباب لغياب الوعى، مسألة نسبية أو قل خلافية، ولكن أيًّا ما اختلفت الآراء فيها تبقى الرؤية ضرورية ليس فقط لحق التاريخ، وإنما استشرافًا لخطى الحاضر والمستقبل.
ولا شك أيضًا أن عبدالناصر حاز ولا يزال شعبية كبيرة، ويسجل توفيق الحكيم أنه بعد الدفعة الأولى المتمثلة فى إزاحة الملكية، وإقامة الجمهورية، وتحديد الملكية، والإصلاح الزراعى، أصبح عبدالناصر الرجل الأول فى البلاد، ويكتسب كل يوم حب الناس وثقتهم، حتى بعض من استولى على أطيانهم الزراعية. بدأ كثير منهم يعتاد تحديد الملكية ويتأقلم عليه، إلاَّ الذين لا أمل فى ولائهم. وبدأت البلاد تعتاد حكم فردٍ وثقوا به وأحبوه. والجماهير عندما تحب لا تناقش.
وخفتت شيئا فشيئًا أصوات من اعتادوا المناقشة.
ومن تداعيات ذلك، أن يعتاد الحاكم نفسه الحكم الذى لا مناقشة فيه.
يقول الأستاذ توفيق الحكيم:
«وأخذ الستار الحديدى يُسْدَل رويدًا رويدًا بين الشعب وتصرفات الحاكم المطلق. كنا نحبه ولا نعرف دخيلة فكره ولا الدوافع الحقيقية لتصرفاته. كان القلب منا يخترق الستار إليه، ولكن العقل ظل بمعزل عنه، لا يصل إلى فهم ما يجرى خلف الحجب. لم نكن نعرف من أمورنا أو الأمور الخارجية إلاّ ما يُلْقِى هو به إلينا من فوق منصة عالية، فى عيد من الأعياد أو مناسبة من المناسبات. وكان يتحدث بمفرده الساعات الطوال ــ بغير كلفة ــ حديثًا يُظهرنا فى صورة أبطال بقيادته، ويُظهر الدول الكبرى حولنا فى صورة أقزام، فكنا نصفق إعجابًا وخيلاء. وعندما كان يخطب بقوة قائلا عن دولة قوية تملك القنابل الذرية: «إذا لم تعجبها تصرفاتنا فلتشرب من البحر «كان يملؤنا الفخر!».
الثقة التى تشل التفكير
ليس بعجيب فيما يبدى الأستاذ الحكيم أن يتلقى الشعب فى حماس عاطفته هذه الخطب بالتهليل والتكبير، ولكن العجيب فيما يقر أن شخصًا مثله محسوب على البلد من أهل الفكر، وقد أدركته الثورة وهو فى كهولته؛ يمكن أن ينساق هو أيضًا خلف الحماس العاطفى، دون أن يفكر فى حقيقة الصورة التى تُصنع، ولعله كان يبرر ذلك لنفسه ــ فيما يقول ــ بأنه من قبيل رفع روح الشعب المعنوية، ولا ضرر فى ذلك ما دامت النتائج السيئة المحتملة لا تزال بعيدة.
كانت الثقة فيما يبدو قد شلت التفكير!
إسرائيل توزع كتاب «فلسفة الثورة»
يتذكر الأستاذ توفيق الحكيم يوم جاءه صاحبه الصحفى اللامع صديق عبدالناصر ــ بنسخة من كتاب «فلسفة الثورة» مهداة إليه من مؤلفه الزعيم، ولكنه تساءل بعد قراءته كيف يصح لسياسى أن يكشف ورقه للعالم هكذا؟
وحدث بعد ذلك أن طالع مقالا منشورًا فى جريدة فرنسية بقلم أستاذ من أساتذة التاريخ والسياسة الفرنسيين. حلل الكتاب تحليلا علميًّا، وبّيَّن ما فيه من أحلام وآمال وتصورات تكاد توحى بالرغبة فى إنشاء ما يشبه الإمبراطورية الواسعة للدول العربية والإفريقية التى تنتظر الزعيم الذى يؤلفها. أو على حد الكتاب نفسه فى إشارته إلى مسرحية «بيرانديللو» الشهيرة «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» فهو يرمى إلى أن «دول العروبة وغيرها تبحث عن زعيم». وأدهشنى بعد ذلك ما جاء فى بعض الصحف العالمية مـن أن كتاب «فلسفة الثورة» هذا تتولى توزيعه فى الخارج جهتان فى نفس الوقت: السفارة المصرية، والسفارة الإسرائيلية.
بالطبع كان غرض السفارة الإسرائيلية تصوير أن زعيمًا من طراز «هتلر» قد ظهر فى العالم العربى.
وبالطبع لم يكن هذا صحيحًا، فعبدالناصر ليس رجل حرب بل رجل سلام.
ويروى الأستاذ الحكيم أنه جاء فى كتاب للصحفى اللامع «محمد حسنين هيكل» أن عبدالناصر فى أوائل عهده كان قد أعد خطبة يلقيها ويعلن فيها خطة أو رؤية للسلام فى المنطقة، غير أنه سمع من السفير الأمريكى، وقتئذ، كلمة استقبله بها فى زيارة، فلم تعجبه الكلمة، وانفعل وغيَّر خطبته واتجاهه فى الحال. وكان لهذا المسلك الانفعالى تأثيره على مصير الوطن كله.. كما سارت الأمور كلها بعد ذلك فى شئون الدولة ــ خارجها وداخلها ــ على هذا المسلك وبهذا المحرك: «الانفعال ورد الفعل».
وعن الانفعال ورد الفعل، يورد الأستاذ توفيق الحكيم أن من يدرس بعناية ــ الأحداث السياسية والعسكرية والاجتماعية التى وقعت فى مصر، يجد أن محركها الخفى الحقيقى كان هو الانفعال ورد الفعل. فلم يكن عبدالناصر رجل سياسة.
ويروى الأستاذ الحكيم أن عبدالناصر انفعل من أجله حين هاجمه بعض أدباء الشباب هجومًا مركزًا تحت عنوان «تحطيم الأصنام». وإذا بعبدالناصر هو الذى انفعل. وإذا هو فى فورة انفعاله ودفعة رد الفعل يصدر قرارًا بمنح توفيق الحكيم أكبر وسام فى الدولة. وقد راجعه كبير تشريفاته بأن هذا الوسام لا يُمْنَح إلاَّ لرؤساء الدول وأولياء العهد، بينما هو موظف فى درجة وكيل وزارة لا يحق له حمل مثل هذا الوسام، فلم يأبه بكلامه.
لا يورد الحكيم هذه القصة جحودًا، وإنما فى سياق يسعى إلى التحليل مبديًا أن هذا الاندفاع العاطفى كان محببًا إليه وإلى الناس، فقد عاشوا طويلا فيما مضى مع رجال حكم حذرين مترددين باردين، ومن ثم كانت هذه العاطفة المتحمسة وما يصاحبها من سرعة وجرأة، شيئًا جديدًا بالنسبة إليهم، ولم تكن قد ظهرت له بعدُ آثار خطيرة.
ويتساءل توفيق الحكيم كيف لا يحب رجلا يحبه ويقف إلى جانبه، ودون أن يراه أو يلتقى به أو يشكره.
ولكنه اتصل به على البعد ــ فيما يروى ــ لتحيته برقيًّا على صورة طالعته وهو يتابع من فراش المرض ما يجرى فى اجتماع لجنة تحضيرية من أهل الرأى، تمهيدًا لعقد المؤتمر القومى. كانت اللجنة برئاسة «أنور السادات» ولكن «جمال عبدالناصر» حضر جلساتها واشترك فى مناقشاتها باعتباره عضوًا، وأعجب توفيق الحكيم روح الحرية التى سادت المناقشات، حتى إن الجدل كان يحتدم أحيانًا بين بعض الأعضاء وجمال عبدالناصر، رئيس الجمهورية، حول مفهوم الديمقراطية، وقد ظهر «عبدالناصر» فى تلك المناقشات المحتدمة واسع الصدر طويل الصبر، يبدى رأيه ويشرحه، ويتلقى المعارضة القوية بحجج أمام حجج دون تبرم أو ضجر، حتى استبانت وجهات النظر، وقوى الأمل عند توفيق الحكيم فى اتجاه الحكم فى مصر الاتجاه الصحيح.
وفى غمرة تفاؤله؛ لم يتمالك توفيق الحكيم نفسه فأرسل برقية إلى الرئيس قال له فيها: «إنى رأيت وأنا على فراش المرض صورة جديدة لمصر وتتشكل أمامى». ورد عليه الرئيس ببرقية يشكره فيها ويتمنى له الصحة.
ولكن المؤتمر القومى حين انعقد إذ به يلاحظ أن المناقشات فيه قد اختفت، وإذ الأعضاء الذين كانوا يناقشون فى الديمقراطية المطلوبة قد لزموا الصمت المطبق، لا فى المؤتمر وحده ولكن فى الحياة العامة، وكأن شيئًا من الإهمال أو عدم الرضا قد شملهم! وأصبح هذا المؤتمر وغيره من الاجتماعات مجرد كتل بشرية لا عقل لها ولا تفكير يميزها، ولا رأى مستقل يصدر عنها، وإنما هى أذرع تلوح وأياد تصفق وأفواه تهتف، والزعيم بقامته الفارعة قائم على منصة عالية يتكلم وحده الساعات الطوال، لا يقاطعه غير صياح هستيرى «ناصر، ناصر، ناصر»، وشعارات تنطلق من كل ركن، مما يستحيل معه الظن بأن أحدًا من الحاضرين قد فهم فى هذه الضوضاء شيئًا مما يقول؛ فقد أصبحت الحناجر هى العقول.

التعليقات