شيطان حَيْوَنة الإنسان - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 1:37 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شيطان حَيْوَنة الإنسان

نشر فى : الخميس 7 فبراير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 7 فبراير 2013 - 8:00 ص

العلاج بصدمة الإنسولين أسلوب علاجى لبعض الأمراض العقلية صار عتيقا ومهجورا فى العالم منذ عقود، لكنه ظل مُستخدما فى المصحات الروسية ومُفضلا على طريقة الصدمات الكهربية على المخ، وقد كنت ولا أزال أنفر من كليهما. وكان هناك فى قسم الحريم بمستشفى بافلوف الذى عملت ودرست به جناح مخصص للعلاج بصدمات الإنسولين كنت أهرب ليس فقط من مناوباته، بل من مجرد النظر إلى داخله عبر بوابته ونوافذه الزجاجية إذا مررت بها، وكنت أسمى ذلك العنبر «صحراء الآلام الوردية»، وما أفدحها من آلام.

 

لن يتجادل العارفون بالعاصمة الأوكرانية فى الإقرار بأنها مدينة أجمل بنات الدنيا، حتى ليقال إنه بين كل جميلة وجميلة توجد واحدة فائقة الجمال، لكن هذا الجمال كان يتشوه بفظاعة عندما يضربه الجنون، وقد كان الجنون يحدث مبكرا وبوفرة بين الشابات الأوكرانيات تحت وطأة كوابيس النظام الشيوعى البوليسى الغبى. لأنهن كن يتزوجن مبكرات من شبان فى مثل أعمارهن المُراهِقة، ومع عسر الحياة محدودة الخيارات يبدأ الملل فى التسرب إلى بيوت الزوجية الصغيرة، يحدث الطلاق المبكر، وترسو قسمة الانفصال على أم صغيرة مع طفل أو طفلين وحدها فى شقة من غرفة واحدة وبراتب محدود، ويكون عليها أن تكدح منفردة لإعالة هذه الأسرة، وتصارع ذاتها الغضة المنفصمة ما بين قوة الأمومة وإلحاح نداءات أنوثتها المهجورة للحب والشريك. ويكون الجنون المبكر هو نتيجة ذلك الصراع، فتأتى إلى قسم الحريم فى مستشفى بافلوف، وتنضم كما كثيرات غيرها لقوافل العلاج بصدمات الإنسولين، تستلقى على واحد من الأَسرَّة العشرين فى العنبر الواسع، تتلقى الحقنة فيهبط السكر فى دمها، فتغيب عن الوعى مشوشة متشنجة ويتشوه جمال صباها المغدور كما مثيلاتها المُسجيات على الأسرَّة، تنحسر ثيابهن عن الأذرع والسيقان المُرفِّصة، وتندلق من أطواق الثياب الصدور وتلتوى النحور، تتقلص الملامح ممتقعة، وتختلط أصوات الأنين والمواء والزومان والحشرجة فوق ذلك اللحم المهيض، فكأن رياحا من أسىً خالص تهب فوق كثبان حية مختلجة، فى صحراء من وجع عميق كنت أضعف من أن أحتمله، فكنت أهرب من مناوباته، وإن لم يفارق خاطرى حتى هذه اللحظة، ولقد خلصت من تأمله إلى يقين أليم، بأن الجنون كما الرعب كما القهر، لهم مقدرة مروعة على تشويه الجسد الإنسانى، ولأن الجنون فى حسبانى هو رعب وقهر معكوسين، فإننى تابعت مشاهد سحل المواطن العارى حمادة صابر أمام قصر الرئاسة التعيسة المُتعِسة هاهنا، بالطريقة نفسها التى نظرت بها إلى صحراء الألم الوردى فى ظل كوابيس النظام الشيوعى البوليسى الغبى الزائل هناك، وكانت تنتظرنى مفاجأة ماثلة تحت وطأة حكم لا أقول بأنه حكم الإخوان، بل حكم عصبة منغلقة على نفسها من الإخوان، وهو حكم خطِر على نفسه، وعلى جماعته، وعلى مصر كلها، إن لم يتوقف، ويتبين، ويلوذ بفضيلة الاعتذار والاعتبار!

 

«اللهم أعوذ بك من كآبة المنظر» جزء من دعاء السفر يصح تطبيقه على كل ما يسوء النفس من المشاهد المؤلمة والبشعة، ولعلى كنت أطبق جوهر هذا الدعاء بتلقائية عملية عندما كانت ضرورات العمل تُلجئنى لدخول عنبر العلاج بغيبوبة الإنسولين، فقد اكتشفت بشكلٍ حدسىٍّ طريقة للتعوذ من آلام منظر تشويه الجمال فى جناح الصحراء الوردية بأن أزيغ بصرى بالنظر فى شرود، فلا أرى التفاصيل، ويتحول المشهد إلى ساحة أطياف غائمة، وهذا بالضبط ما فعلته عند تكرار مشاهدتى لمنظر سحل حماده صابر بعد تعريته أمام أبواب القصر الرئاسى المنحوس، ففى النظر بهذا الأسلوب يحدث اختزال لصور الأشخاص إلى أطياف غير محددة، ومع حركة الأطياف تتوضح المسارات، ومن هذه المسارات يتولَّد استنتاج هندسة مشهد السحل، فيذكَّرنى بنظرية حديثة فى دراسات سلوك الحيوانات صاغها عالِم الأحياء « دبليو. دى. هاملتون « عنوانها: « هندسة القطيع الأنانى « GEOMETRY OF SELFISH HERD، وتتلخص فى أن هناك نسقا للحركة الجماعية لأسراب الطيور كما قطعان الحيوانات وأفواج الأسماك، وهذا النسق يخدم كل فرد كما يعود بالفائدة العامة على الجماعة، فهو يلبى مطالب أنانية الأفراد كما يستجيب لضرورات الحفاظ على سلامة ووحدة الكل. وقياسا على هذا المفهوم وجدتنى أستنتج جديدا منبثقا من مشهد سحل حماده صابر ويتطابق بشكل مذهل مع هندسة مشاهد تجمُّع الحيوانات المفترسة على فريسة تُقطِّعها مخالبهم وتنهشها أنيابهم، وأود لو أضع هذا الاستنتاج تحت عنوان «هندسة الافتراس»، وهذا ليس كل شىء، فوراء هندسة الافتراس فى ذلك المشهد البغيض ما هو أبغض.

 

يمكنكم أن تختبروا حقيقة «هندسة الافتراس» هذه بالنظر إلى مشهد سحل حمادة صابر بطريقة التحديق الشارد إلى المنظر التى وصفتها، ثم قارنوا الانطباع الذى تخرجون به مع انطباعات أخرى نتيجة النظر بالطريقة نفسها لمشاهد فريق من الأسود أو الفهود أو الضباع تفترس غزالا أو ظبيا أو غير ذلك، وهى متاحة بوفرة فى موقع «يو تيوب». إنها الهندسة نفسها، هندسة افتراس غزال أو ظبى وقع بين أنياب ومخالب وحوش الغابة، كما هندسة افتراس حماده صابر بين بيادات وهراوات وقبضات جنود وضباط أمن وزير الداخلية الجديد الذى اختاره محمد مرسى وفريقه الممثل لفريق من الجماعة، ولم يُقصِّر الوزير فى تنفيذ وصايا مرسى ومن وراءه بالفتك بالمعارضين، سلميين وغير سلميين، بوحشية وفظاظة وجلافة غير مسبوقة، يضمن بها هذا الوزير بقاءه على كرسى الوزارة، ويدرأ بها مرسى ومن خلفه هواجس زحزحته عن كرسى الرئاسة المنكود. وبرغم أن مشهد افتراس المصرى العارى كان متحركا، إلا أن نقاط حركة الأفراد ومحاور اتجاهاتهم فيه، ظلت هى نفسها: الفريسة فى المركز، والمفترسون فى المحيط يندفعون نحوها. وليت الأمر يقف عند هذا الحد من الاستنتاج المرير، فهناك ما هو أشد مرارة.

 

هندسة الافتراس المتطابقة هذه بين مشهد فضيحة قصر الاتحادية ومشاهد وحشية الغابة، لم تقف بى عند حدود التطابق الهندسى الشكلى، فهناك اختلاف جوهرى ينبثق من مُسلَّمة «ولقد كرَّمنا بنى آدم» كما أراده خالق الخلق اصطفاء من سائر مخلوقاته، بفطرة فطره الله عليها فجعله بشرا سويا قبل أن تغير على هذه السوية وحشية البشر، فتشوِّه الاستواء فى مشهد جسد إنسان رأيناه فريسة عارية ممرغة فى الطين بين ما يعادل أنياب ومخالب وحوش الغابة، عُصيا وركلات ولكمات وضربات بكعوب بنادق ورصاص الوزير الممتثل لتوصيات من أتى به إلى عهد جديد من عهود البطش الأثيم، سحلا، وقتلا، وتعرية، وتنكيلا. فما المختلف فى الأمر؟

 

 المختلف فى مشاهد الافتراس بين الإنسان والحيوان يكمن فى ظاهرة يمكن ترجمتها «أكل لحم الإخوة» CANNIBALISM ومفادها أن يأكل المخلوق لحم مخلوق من بنى جنسه، وهى ظاهرة شاذة فى عالم الحيوان، تقع فى حالات فردية محددة لأسباب مادية مبررة فى إطارها الحيوانى، ويقع معظمها فى إطار التناسل كقتل والتهام ذكر ثعبان الكوبرا لأنثى يراودها وهى تمتنع لسابق إخصابها من ذكر آخر وحملها لبيض مخصب توشك على وضعه، وقتل الزوج الجديد من الأسود لأشبال الأنثى من ذكر سابق لأن الأنثى لا تواتيها الرغبة للتزاوج طالما كانت ترعى أشبالا حتى يُفطموا، والتهام أنثى السرعوف المتعبد لرأس الذكر فى أعقاب الاقتران حتى تتقوى بوجبة بروتين تعينها على إنضاج البيض وتستنزف كل خصوبة الذكر الذى يمنحها آخر رحيقه بعد أن تنقطع رأسه! وهو أمر يتكرر لدى بعض العقارب وبعض العناكب السوداء، لكن كل هذه حالات فردية فى إطار محدد، فلم أعرف أسودا تلتم على جسد أسد جريح أو قتيل لتلتهمه، أو فهودا تكرر ذلك مع فهد، أو حتى ضباع تفعله مع ضبع. لا يوجد، على الأغلب الأعم، حالات افتراس جماعى لفرد من النوع نفسه. بل إن حالات افتراس فرد لفرد آخر من بنى جنسه، خارج المحدد والمعلوم الذى ذكرت بعضه، لا تحدث إلا فى حالات عطب أجزاء من المخ نتيجة إصابة أو غزو ميكروبى، تُفقِد الحيوان حاسة تمييز بنى جنسه، فيتعامل معهم كمفترسين أو طرائد، يقتلهم أو يلتهمهم. فهل هناك عطب أمخاخ مُماثل فى بلادنا الآن؟ وما مصدر هذا العطب الشيطانى؟ وأين تقع المسئولية الأثقل إذا كان ذلك كذلك، على المخ الضال والمضلِّل؟ أم على الأسنان والمخالب التى تطيع ضلال ذلك المخ؟ وإلى أين نحن ذاهبون بمثل هذه الأمخاخ والأنياب والمخالب؟

 

مصر فى خطر. نسأله السلامة. والسلام.    

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .