صندوق أحمد سعيد - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الإثنين 17 يونيو 2024 6:32 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صندوق أحمد سعيد

نشر فى : الإثنين 7 سبتمبر 2015 - 5:40 ص | آخر تحديث : الإثنين 7 سبتمبر 2015 - 5:40 ص

ظاهرته لا مثيل لها فى التاريخ العربى الحديث كله.
صعد بتأثيره إلى حيث لم يصعد إعلامى آخر.
وظلمت أدواره كما لم تظلم أى أدوار أخرى.
وهو يدخل عامه التسعين تكاد حجب النسيان أن تطوى ذكره.
هذه مأساة حقيقية، فالأمم التى تنكر تاريخها يصعب أن تضع أقدامها فى أى مستقبل.
أكثر الأسئلة جوهرية فيما يتعرض له العالم العربى الآن من هزائم مروعة:
كيف انهار كل معنى وتقوض كل أمل؟
هو أبرز أصوات الاستقلال الوطنى فى العالم العربى من أوائل الخمسينيات حتى نكسة (١٩٦٧).
كان الصوت مسموعا وإلهامه نافذا.
خاض معركة إسقاط حلف بغداد عام (١٩٥٥) الذى استهدف ملء الفراغ فى المنطقة بعد تراجع الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية.
كانت المعركة ضارية بين القوة الأمريكية الصاعدة بعد الحرب العالمية الثانية وحركات التحرير الوطنى التى مازالت فى مهدها.
وخاض حرب السويس عام (١٩٥٦) حاشدا العالم العربى وراء مصر المقاتلة.
كانت معركة أخرى على مصير الإرادة الوطنية المستقلة بعد تأميم قناة السويس.
ارتفع صوته فى عام (١٩٥٨) بأحلام الوحدة المصرية ــ السورية والتطلع إلى دولة عربية واحدة.
طوال سنوات التحدى حتى انكسار هزيمة (١٩٦٧) تصدر كل معركة من المشرق العربى فى العراق وسوريا ولبنان إلى مغربه فى الجزائر والمغرب وتونس إلى الخليج العربى واليمن.
الثورة الجزائرية درة التاج فى معاركه كلها.
لا يمكن كتابة تاريخ ثورة المليون والنصف المليون شهيد دون التوقف عند دوره فيها.
فى أول نوفمبر (١٩٥٤) قرأ بصوته البيان الأول للثورة عبر أثير «صوت العرب»، وأشرف كاملا على إعداد النشيد الوطنى الجزائرى.
ربطته علاقة صداقة عميقة مع الرجل الذى التقاه لأول مرة باسم «مسعود مزيانى» امتدت حتى نهاية العمر.
كان «مزيانى» هو الاسم الحركى للزعيم الجزائرى «أحمد بن بيللا».
تابع بالتفاصيل قصة الثورة الجزائرية، وكتب شهادته لكنه لم ينشرها حتى الآن.
أثناء فتنة مباراة كرة القدم بين مصر والجزائر سألته أن يكتب فى الموضوع لجريدة «العربى».
قال: «أريد أن أعرف موقفك».
رددت: «أنا قومى عربى».
رغم ما يربطنا من حوار ومودة فإن الأجواء العامة دعته إلى السؤال.
كان كل شىء هستيريا وأغلب ما يكتب على ورق أو يبث فى فضاء عارا حقيقيا.
فى لحظات الفتنة وجد نفسه أمام سؤال سياسى وإنسانى عما إذا كانت الذاكرة محيت.
فى دراسته اللافتة لما طرأ على المجتمع الجزائرى من تحولات فى القيم والسلوك بأثر سنوات الثورة أشار المفكر الفرنسى «فرانس فانون» إلى دور «صوت العرب» فى إلهام فكرة الاستقلال.
كان الجزائرى العادى يشترى جهاز الراديو ليستمع إلى صوته وهو يردد كلمة «الاستقلال» بينما الأفئدة ترتجف.
فى كل مكان بالعالم العربى سادت الروح نفسها، وأطلق على جهاز الراديو «صندوق أحمد سعيد».
‫«‬أحمد سعيد» لا غيره.‬‬
فى عام (١٩٦٧) حمل بما لا يحتمل من مسئولية النكسة العسكرية.
كانت الهزيمة فادحة والبيانات العسكرية كاذبة.
لم يكن هو الذى كتبها، فقد تلقاها من القيادة العسكرية فى ذلك الوقت.
ولم يكن بوسعه تجاهلها شأن أى محطات تلفزيونية أو إذاعية أخرى.
لكن كل السهام صوبت إليه وحده.
فى سبتمبر (١٩٦٧) خرج من الإذاعة التى أسسها عام (١٩٥٣) وتوارى إلى الظل.
خلفه على مقعده «محمد عروق».
لم يكن الهدف تغيير الرجال بقدر تغيير الدفة من التعبئة إلى التوعية، فقد اختلفت طبيعة المعارك.
عند انقلاب السياسات على عصر «جمال عبدالناصر» استهدفت تجربة «أحمد سعيد» بضراوة.
شاعت روح السخرية من اللحن المميز الذى ارتبطت به «صوت العرب» «أمجاد يا عرب أمجاد.. فى بلدنا كرام أسياد».
لم تستهدف السخرية الرجل وتجربته بقدر ما استهدفت عصر الأحلام الكبرى التى انكسرت.
فى عزلته الطويلة التى امتدت لنحو نصف قرن كان يستعيد من وقت لآخر بيتى شعر الشاعر العراقى الكبير «الجواهرى»:
‫«‬إنا رئات فى حنايا أمة‬‬‬‬
راحت بنا تتنفس الصعداء
لم نأت بدعا فى البيان وإنما
كنا بما حلمت به أصداء»
المفارقات تبدو حادة اليوم بين ما بشر به وما وصلنا إليه.
غير أن هذه ليست مسئولية، فهو لم يخترع مشروع التحرير الوطنى ولا نداءات الوحدة العربية.
كان العالم العربى يموج بهذه الأفكار ومستعد للتضحية فى سبيلها.
هو ابن مرحلة الصعود الكبير وصوتها الأبرز.
شغل تأثيره مراكز أبحاث وأجهزة استخبارات على ما تدل الوثائق الغربية المتاحة الآن.
أثناء حرب السويس قصفت الطائرات محطات إرسال «صوت العرب» فى «أبى زعبل» شمال شرق القاهرة لإسكاتها.
حين فشلت الغارات فى إسكات صوته، حاولت غارات من نوع آخر تشويه صورته.
غير أن التاريخ سوف يتوقف طويلا أمام تجربته التى لا مثيل لتأثيرها بامتداد العالم العربى كله.
عندما كانت ساعة جامعتها العريقة تدق السادسة من مساء السبت (٤) يوليو (١٩٥٣) بدأ بث «صوت العرب» من القاهرة.
كان مديرها ومذيعها الوحيد قبل أن تنضم إليه نخبة من أفضل الإذاعيين المصريين من بينهم «نادية توفيق» و«محمد عروق» و«بهاء طاهر» و«السيد الغضبان» و«أمين بسيونى» و«محمد الخولى» و«فاروق خورشيد» و«ديمترى لوقا».
لم يكن قد تجاوز الثامنة والعشرين من عمره عندما بدأت تجربته.
السن المبكرة فى تقلد المناصب العامة من طبيعة ثورة يوليو، فقد كان زعيمها «جمال عبدالناصر» فى منتصف الثلاثينيات.
المثير أن تفكير يوليو فى محطة إذاعية تخاطب العالم العربى وتتبنى قضاياه استبق إعلان توجهها القومى.
لا يولد شىء من فراغ، فقد كان «عبدالناصر» متأثرا بتجربة الحرب فى فلسطين (١٩٤٨)، وانطوت فلسفة الثورة التى صاغها الأستاذ «محمد حسنين هيكل» على إدراك مبكر لأولوية الدائرة العربية فى السياسة الخارجية المصرية.
من الأسباب الجوهرية لنجاح تجربته وضوح الأهداف القومية وسقف الحرية المرتفع على ما يقول بنفسه.
فى (٢٥) فبراير (١٩٦٥) قال الرئيس «عبدالناصر» فى خطاب مفتوح إنه لا يوافق «أحمد سعيد» فى أمور كثيرة يتحدث فيها، لكنه يمتنع عن أى تدخل، فالتدخل «بيموت صوت العرب وبيضيع قيمة صوت العرب».
حتى إعلام التعبئة يحتاج إلى الحرية.
الإعلام يفقد تأثيره عندما يخسر حريته.
دراسة التجربة بعمق من مقتضيات رد اعتبار الإعلام المصرى الذى تدهور بصورة غير مسبوقة.
للنجاح أسبابه وللفشل أسباب أخرى.
وهو يخطو إلى تسعينيته ربما جال بخاطره أن التاريخ سوف ينصفه.