جلال أمين.. مَوت ناقِد الرموز الكبيرة فى مصر - العالم يفكر - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 3:34 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جلال أمين.. مَوت ناقِد الرموز الكبيرة فى مصر

نشر فى : الأربعاء 7 نوفمبر 2018 - 11:35 م | آخر تحديث : الأربعاء 7 نوفمبر 2018 - 11:35 م

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب اللبنانى «محمود حدّاد» ــ يستعرض فيه أهم أفكار المفكر الجليل جلال أمين الاقتصادية والسياسية. ويرى الكاتب أن تميز جلال أمين عن غيره يكمن فى أنه كان ذو نظرة شمولية فى تفسير العديد من ظواهر الحياة المصرية ــ على وجه التحديد ــ والعربية ــ بشكل عام.
من الظواهر السلبيّة فى ثقافتنا السائدة، المُبالَغة، مَدحا أو ذمّا، فى وصف أمورنا على اختلافها. إلّا أنّ السياسى والطبيب المصريّ المرموق محمّد أبوالغار لم يكُن مُبالِغا عندما نعى د. جلال أمين قائلا: «رحل عن عالَمنا مصريّ نادر الوجود، عظيم الوطنيّة، موسوعيّ الثقافة، عميق التفكير، أستاذ قدير فى جامعته، غزير الكِتابة فى مختلف الآفاق، صديق المثقّفين والغلابة والشباب والفنّانين».. وإذا كان وصْف إنسان يعمل فى الحقل العامّ بأنّه «لم يكُن يأخذه فى الحقّ لَومة لائِم» يتكرّر إلى حدّ أنّ هذا القول فَقَدَ معناه، إلّا أنّنى استطيع القول بضميرٍ مرتاح إنّ القول المذكور يَنطبق أكثر ما ينطبق على د. جلال أمين الذى عَرفته متأخّرا بعض الشيء.
ظَهرت شجاعته الفكريّة عندما انتقَد طه حسين على كِتابه «فى الشعر الجاهلى» وتوفيق الحكيم على كِتابه «عودة الوعي»، الذى أصدره بعد وفاة الرئيس عبدالناصر واصفا إيّاه بالكِتاب السيئ؛ كما انتقَد يحيى حقّى وأحمد بهاء الدّين، أحبّ أصدقائه إليه، بسبب تحليلهما الذى يركِّز على أنّ نقْص الحداثة فى المجتمع العربى يفسِّر هزيمة 1967. كما انتقَد نجيب محفوظ لمَواقفه الاجتماعيّة والسياسيّة ومنها مدحه لما كان ينشره الكاتِب المصرى ثروت أباظة وهى كِتابات اعتبرها غير ذات قيمة أدبيّة. ونَقد رجاء النقّاش لمديحه غير المُبرَّر لحسنى مبارك وكذلك لفيلمَيْ يوسف شاهين «المُهاجِر» و«المَصير» اللّذَين حازا شهرة واسعة بين المثقّفين العرب بسبب «ريادتهما» كما قيل، بينما اعتبرهما رائعَين من الناحية التقنيّة/ الفنيّة، لكنّهما يرسلان رسالة غير صادقة عن العرب وتاريخهم. وهو كان يرفض شيوع الثّناء على شخصٍ أو عملٍ والإصرار على تمجيده وتعظيمه من دون وجه حقّ.
أن يكون جلال أمين مثقّفا، فهذا أمرٌ بديهى لإنسانٍ نَشأ فى بَيت والده المؤرِّخ أحمد أمين صاحب «فجر الإسلام»، و«ضحى الإسلام»، و«ظهر الإسلام»، و«زُعماء الإصلاح فى الإسلام» وكذا كِتابه الصغير: «الشرق والغرب». وأن يكون جلال أمين اقتصاديّا مرموقا فهذا تحصيل حاصل لشابٍ دَرَس العلوم الاقتصاديّة فى القاهرة ولندن ونال أرفع رتبها وأصبح أستاذا جامعيّا فى أكثر من مركز ومؤسّسة. لكنّ خصوصيّة جلال أمين وتفرّده يكمنان فى أنّه جَمَعَ الثقافة إلى السياسة إلى التاريخ إلى الاقتصاد إلى عِلم الاجتماع وإلى عِلم النفس، فكان ذا نظرة شموليّة، ولَمع فى تفسير كثيرٍ من ظواهر الحياة المصريّة والعربيّة فى أكثر من مَجال.
لم أكُن أعرفه على الإطلاق، ولسببٍ غير مفهوم لديّ، ما كنتُ قد قرأتُ أيّا من مؤلّفاته. اشتركتُ فى مؤتمرٍ فكريّ حول عصر النهضة العربيّة فى القرن التاسع عشر فى لبنان منذ خمس سنوات مُستخدِما تعبير «التنوير الزائف» ناقِدا بعض ممثّلى المرحلة وبعض المَفاهيم والأفكار التى راجت خلالها. بعد المؤتمر جاء مَن يسألنى: «هل أنتَ من مدرسة جلال أمين؟»، أجبتُ بأنّنى لا أعرف الرجل ولا شيئا عن أفكاره، لكنّ فضولى كان كبيرا، فأخذتُ أبحث عن كُتبه وأقرأ زاوية «الرأي» فى صحيفة «الأهرام» صباح كلّ اثنين لأطَّلع على ما فاتنى منذ سنوات غربتى فى الخارج. صعقتُ! لدَيه كِتاب بعنوان «التنوير المزيّف» وعشرات المقالات المتعدّدة الاهتمامات حول كثير من الشئون التى أهتمُّ عادةً بها. اعتبرتُ نفسى طالِبا من طلّابه من دون أن أراه، وصرتُ أحدِّث طلّابى فى الجامعة عن أفكاره؛ ولمّا حانت فرصة لزيارة القاهرة، استطعتُ الإثقال على صديقٍ مُقيم فى مصر لأحصل على رقم هاتفه واتّصلتُ لأطلبَ موعدا منه وقد كان: من مطار القاهرة إلى الفندق ثمّ على الفور، وسْط دهشة مجموعة الأساتذة الأصدقاء الذاهبين إلى الكنانة، بسرعة إلى بيت جلال أمين القريب من ثكنات الجيش فى المعادى، جنوب القاهرة.
***
ويضيف الكاتب أنه لم يكُن صاحب نظريّة شامِلة، ربّما لأنّه أعطى أهميّة كبيرة للظروف المتغيّرة فى تفسير الأمور المُترابِطة. استعرض معكم بعض أهمّ قناعاته:
• كانت لديه قناعة مركزيّة ــ أشاركه فيها ــ بوجود تحكُّمٍ خارجى بمجتمعات العالَم الثالث ودوله، وعلى رأسها العربيّة منها.
• إنّ أسباب المشكلات الاقتصاديّة العربيّة ليست اقتصاديّة! (أى أنّها تتعلّق بقرارات أو مَصالِح سياسيّة/اقتصاديّة).
• إنّ نسبة زيادة الدخل القومى السنويّة تُحدِّد ما إذا كانت الزيادة السكانيّة تضغط سلبا على الاقتصاد الوطنى أم لا. فإذا كانت نسبة الزيادة السكانيّة السنويّة أكبر من الزيادة السنويّة فى الدخل القومى كان الحاصل سلبيّا وإذا كان العكس صحيحا كانت الزيادة السكانيّة مقبولة.
• إنّ سلوكيّات المجتمعات العربيّة تغيَّرت لسببَيْن: الأوّل، قيام الدولة الوطنيّة منذ منتصف الخمسينيّات حتّى منتصف الستينيّات بفتْح أبواب التقدّم الاجتماعى للطبقات الفقيرة من خلال توفير الخدمات الصحيّة والتعليم المجّانى. لذلك بدأ عندها الحراك الاجتماعى الذى أفضى إلى زيادة حَجم الطبقة الوسطى، وبخاصّة فى مصر. وهو يُطلِق على تلك المرحلة تسمية «الزمن الجميل»، لِما صاحَبها من تطوّرٍ ثقافى وفنّى لم نشهد مثله بعدها. أمّا السبب الثانى فهو تدفّق أموال النفط بعد 1973 على الطبقات الاجتماعيّة العربيّة المختلفة، بحيث أصبَح مَن كان فى السلّم الاجتماعى الأدنى يريد أن يقلِّد مَن كان أعلى منه فى مجالات كثيرة. وهو يأخذ حفلات الزواج كمثال: تقوم عائلة العروس أو عائلة العريس ــ بحسب التقاليد ــ بتنظيم حفلة صاخِبة تُعزَف خلالها الموسيقى بصورة خادشة لآذان المدعوّين، ويُقدَّم فيها العشاء الفاخر، وتُنظَّم الرقصات الغربيّة الطّابع. الهدف من ذلك كلّه ليس الاحتفال والاستمتاع، بل الهدف الحقيقى هو الإعلان الضمنى لصاحب الدعوة أنّه أصبح لديه من المَوارِد الماليّة ما يُمكِّنه من إقامة احتفالٍ صاخب ودفْع أجرة عالية للراقصين والموسيقيّين وتقديم أشهى أنواع المأكل والمشرب. إنّ الحفلة هذه تُعتبر بمثابة إعلان مُغادَرة المُضيف طبقته الاجتماعيّة القديمة ودخوله طبقة اجتماعيّة أعلى.
• كان له رأى واضح فى أهميّة استقلال مصر الاقتصادى، وله رأى شديد السلبيّة فى المؤسّسات الماليّة الدوليّة التى كان يعتقد أنّها خطِرة على الأوطان واقتصادها وأنّها تجرّها إلى التبعيّة. وكان لا يتردَّد فى تدرِيس ذلك فى الجامعة الأمريكيّة فى القاهرة.
• كانت بداية التعبير عن هذا المَوقف فى كِتابه الذى كَتبه بالإنجليزيّة فى أوائل السبعينيّات، وقد نُشر بالإنجليزيّة تحت عنوان (The Modernization of Poverty) أى «تحديث الفقر»، لوصْف تجربة كثير من بلاد العالَم الثالث فى التنمية، وعرَضَ فيه تجربة تسع دول عربيّة فى التنمية فى ربع القرن التالى للحرب العالميّة الثانية، ورأى فيها شيئا أقرب إلى إلباس الفقر رداءً حديثا من دون نجاح كبير فى تخفيض الفقر نفسه.

• لا يقول بالتمسّك المُبالَغ بالدّين والتراث والقول بمناسبة ومن دون مناسبة إنّ «الإسلام هو الحلّ»، لكنّه يرفض فى الوقت ذاته الاستهزاء بالدّين والاستخفاف بالتراث، لأنّه كان يعتبر أنّ المَوقف الأخير يَعكس استغراقا فى ماضٍ آخر هو ماضى الأجنبى وتراثه. كان يميِّز بين الدّين والتديّن. المهمّ تجديد شباب الأمّة بتراثها وحبّها للحياة فى آن. كان حرصه على التراث يصدر عن نظرة سوسيولوجيّة أكثر منها ميتافيزيقيّة، وتعاطفه مع الدّين واحترامه له وحرْصه على حمايته ينبع من تعاطفه مع أمّته واحترامه لها. إلّا أنّه أسف لانقضاء ذلك العصر الذى كان يُمكن أن يقول فيه مكرم عبيد، «ذلك القبطى الفذّ»، كما وصفه، «إنّى قبطى دينا ومُسلِم وطنا، فالإسلام ــ بالنسبة إليه ــ دينٌ، ولكنّه أيضا وطنٌ وثقافة. ولكنّ التفكير على هذا النحو يتطلَّب ظروفا سياسيّة واجتماعيّة كانت مُتوافِرة فى العشرينيّات والثلاثينيّات والأربعينيّات من القرن الماضى، ولكنّها لم تعُد متوافِرة الآن.
• كان يعتقد أنّ الديمقراطيّة ليست ــ كما يظنّ بعض المثقّفين ــ حلّا لكلّ المشكلات. وهو يقول فى تفسيره لهزيمة 1967، مثلا، إنّه لا يعفى هذه القيادة أو تلك من المسئوليّة عن هذا الخطأ العسكرى أو ذاك، ولا ينكر أنّ مزيدا من الديمقراطيّة كان من شأنه أن يجعل النتيجة أفضل قليلا، والخسائر أقلّ قليلا. « لكنّى على يقينٍ تامّ بأنّ نتيجة حرب 1967، بأبعادها الرئيسة، كانت واقِعة لا محالة فى ظلّ ظروف العالَم ونَوع العلاقات الدوليّة السائدة وقتها. بل إنّى أذهب إلى حدّ القول إنّ كثيرا من الأخطاء التى ارتكبها العرب، عسكريّة أم سياسيّة، وأدَّت إلى تضخيم حجْم الهزيمة، كانت فى الأساس نتيجة أنّ هذه الظروف الدوليّة نفسها قد وضعت العرب حتّى قبل 1967 بسنوات، فى وضْعٍ يَفرض عليهم فرضا الوقوع فى هذه الأخطاء».
• كان أحمد بهاء الدّين أقرب أصدقائه إليه. وكانا من ضمن قلّة من المثقّقين المصريّين المؤمنين بالعروبة والعاملين لها قبل 1967. إلّا أنّه تميَّز عنهم بعدم التركيز على أخطاء القائلين بهذه الفكرة، لأنّه اعتقد أنّه مهما كانت قوّة العوامل السلبيّة المؤثِّرة فى فكرة القوميّة العربيّة وحركتها، من داخل العالَم العربى، فإنّ الأهميّة الكبرى تقع على العوامل المؤثِّرة فيها من الخارج. أمّا ضعف الولاء النّاتج عن اشتداد حركة التغريب فى العالَم العربى، فيعود إلى حدٍّ كبير إلى ما طبَّقته الدول العربيّة من سياسات الانفتاح على الغرب فى أعقاب تلك الحرب، وهى سياسات كانت فى رأيه نتيجة ضغوط خارجيّة أكثر من كونها اختيارا حرّا من جانب السياسيّين العرب.

النص الأصلى:

التعليقات