التضامن العالمى على المحك - ماجدة شاهين - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 10:46 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التضامن العالمى على المحك

نشر فى : الجمعة 8 مايو 2020 - 9:35 م | آخر تحديث : الجمعة 8 مايو 2020 - 9:35 م

بدأت أولى علامات سقوط العولمة عندما انقض الرئيس الأمريكى على هذا المفهوم وأعلن على الملأ أمام الجمعية العامة فى دورتها الـ73 (2018) «نحن نرفض العولمة ونعتنق عقيدة الوطنية». لقد كان ذلك إعلانًا عن انتهاج السياسة الخارجية «أمريكا أولا» وأن العولمة لا تخدم المصالح الأمريكية. وبدأت الولايات المتحدة، التى كانت أولى من ابتدعت العولمة وقامت بتغليفها فى إطار منظمة التجارة العالمية لحث الدول كبيرها وصغيرها على فتح أسواقها للسلع والخدمات الأمريكية، بدأت تشعر بثقل العولمة على كاهل اقتصادها واستغلال الدول وعلى رأسها الصين انفتاح الاقتصاد الأمريكى لإغراقه بالسلع والخدمات الصينية. وخاض الرئيس الأمريكى حروبا شعواء لم ينج منها صديق ولا عدو. فخاض حربا ضد جيرانه كندا والمكسيك وأرغمهما على تغيير اتفاقية التجارة الحرة الثلاثية إذا ما أرادا الحفاظ على السوق الأمريكية مفتوحا لمنتجاتهما، كما خاض حربا ضد الصين بداية من صيف 2018 واستمرارا حتى الآن إزاء ما تقوم به الحكومة الصينية من إلزام الشركات الأمريكية على نقل التكنولوجيا المتقدمة إذا ما أرادت دخول السوق الصينية والاستثمار فى الصين. واعتبر ترامب ذلك استغلالا من قبل السلطات الصينية متجاهلا أن تكون مقايضة بين المكاسب المالية الضخمة التى تجنيها الشركات الأمريكية مقابل تطوير وتنمية الصناعة الصينية. ولم يتوان الرئيس الأمريكى عن تهديداته وإلقاء اللوم على الدول الأوروبية حين جرأت على الإعراب عن نيتها فى فرض ضرائب على شركات التواصل الاجتماعى أمثلة جوجل وأمازون على ما تحققه من مكاسب جمة فى الأسواق الأوروبية. وبدا الكثيرون فى أوساط الدول المتقدمة مقتنعين بما يقوله الرئيس الأمريكى وأعربوا عن تشكيكهم فى جدوى العولمة، خاصة فى ضوء ما ارتأوه من صعود اقتصاديات الدول النامية وعلى رأسها الصين والهند والبرازيل استغلالا للعولمة وغزو أسواق الدول المتقدمة، بينما أبقت على أسواقها مغلقة تنعم بالحماية الجمركية وإجراءات مبتكرة ذات الأثر المماثل والتى تسهم فى بقاء السوق مغلقة فى ظل ما يُعرف بالحماية المقنعة.
***
بيْد أننا اليوم أمام تحديات جديدة للعولمة تضرب الإنسانية فى صميمها. فإن وباء الكورونا يضع العالم أمام اختبارات جديدة ليكشف عن مدى قدرته فى التضامن على نطاق واسع للتغلب على هذا الوباء، الذى يمارس العولمة المطلقة بكل قوتها وأبعادها ويعبر الحدود دون أن يبالى بأى حماية جمركية كانت أم غيرها ودون تمييز بين اقتصاديات الدول المتقدمة أو النامية، فالجميع سواء. وإذ نشهد اليوم سيطرة وباء الكورونا على دول كثيرة بالاتحاد الأوروبى وفشل الاتحاد فى احتوائه، فالاتحاد الأوروبى الذى لم يكن يترك مناسبة إلاّ ويتباهى أمام العالم أجمع بنجاحه فى تحقيق التضامن بين شعوبه وانصهار حدوده فى دولة كبرى واحدة، يقف اليوم مغلوبا على أمره يطالب دوله بالإغلاق التام لحدودها منعا لتفش أكبر لأزمة الكورونا. وإن كان هذا الحظر مبررا، إلاّ أنه حدا برئيسى وزراء كل من إيطاليا وإسبانيا، وهما أكثر دولتين تعانيان من تفشى الوباء، بتوجيه انتقادات عارمة للاتحاد الأوروبى لعدم تقديم العون لهما. واتهمت الحكومة الإيطالية الاتحاد الأوروبى بالبطء فى تقديم المساعدة لبلاده ونقص التضامن بين الدول الأعضاء لتقديم الإمدادات الطبية الإضافية والمعدات الطبية. بل وأن الدول الأوروبية أمضت وقتها فى التشاور والتحاور بدلا من اتخاذ إجراءات طارئة وملموسة وفعّالة لمساعدة كل من إيطاليا وإسبانيا، وأكثر من ذلك، نجد دولا مثل ألمانيا وفرنسا قامتا بفرض قيود شاملة على تصدير المعدات الطبية الواقية، بما فى ذلك تصديرها إلى دول الاتحاد. ومن المؤكد أن ذلك كله لا يعكس علامة جيدة للتضامن الأوروبى.
***
و«يضع الله سِرَّه فى أضعف خلقه»، فنجد أن مصر والصومال وغيرها من الدول النامية هبت لمساعدة إيطاليا وإسبانيا فى أزمتهما. فنجد أن الصومال والتى تعانى من حرب أهلية مستفحلة وغزو غير مسبوق للجراد الصحراوى الذى اضطرها إلى إعلان حالة الطوارئ الوطنية، لم تتباطأ فى إيفاد عشرين طبيبا صوماليا إلى إيطاليا لمساعدتها فى محاربة فيروس الكورونا. كما أرسلت مصر طائرتين عسكريتين تحملان مستلزمات طبية لمساعدة إيطاليا فى محنتها.
فما بالك إذا كان هذا هو الوضع داخل الدول أعضاء الاتحاد الأوروبى، فماذا يمكن لنا أن نتوقع فى حالة تفاقم الأزمة فى إفريقيا وهو الأمر الذى لا مناص منه. فإن إفريقيا هى الاختبار الأكثر تحديا وستكون بمثابة المحك لمدى استعداد وجدية المجتمع الدولى فى إثبات قدرته على التعاون والتضامن. إن انتشار الفيروس، إن لم يتم احتواؤه فى الوقت المناسب، سيخلق واحدة من أسرع الكوارث نموا فى إفريقيا. وبمجرد أن يزداد تفشى الفيروس التاجى حدة، قد لا يبقى شيئا للدول الإفريقية لإنفاقها على تنميتها وبنيتها التحتية وطرقها وموانئها لتعزيز تجارتها بين الأقاليم وتحقيق هدفها المنشود بمضاعفة تجارتها خلال العقد المقبل، مما سيفقد الدول الإفريقية وشعوبها كل الجهد والعمل الشاق والتضحيات التى قدموها خلال السنوات الماضية من أجل النهوض باقتصاداتهم. وطالب وزراء المالية الأفارقة فى اجتماع فى أواخر مارس عبر التواصل الاجتماعى مساعدة مبدئية تصل إلى مبلغ وقدره 100 بليون دولار يخصص 44 بليون دولار منها لتخفيف عبء الديون عن كاهل الدول الإفريقية. فهل يستجيب المجتمع الدولى بما فى ذلك مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية لهذا النداء لدرء مخاطر انتشار الوباء فى إفريقيا وبين دولها وشعوبها؟ وماذا سيكون دور الصين فى اقتلاع الوباء وحماية الدول الإفريقية من تفشى هذا الوباء والتى تتضارب الأقوال عن مصدره؟
كما أن تدهور الاقتصاد الصينى سيزيد الطين بلة، حيث إن جميع الاقتصادات الإفريقية دون استثناء وإن كان بدرجات متفاوتة، مترابطة بشكل وثيق مع الاقتصاد الصينى ومدخلاته وسلاسل التوريد وتمويل مشاريع التنمية والبنية التحتية. فعلى سبيل المثال، سيعانى جنوب السودان وإريتريا من انهيار فى التجارة الخارجية، حيث تمثل مشتريات الصين 95% من جميع صادرات جنوب السودان وما يقرب من 60% من صادرات إريتريا. كما أنه من المرجح إزاء ما قد يواجه الاقتصاد الصينى من كساد نتيجة لامتناع الولايات المتحدة وكثير من الدول الأوروبية عن استيراد منتجاته بل وتحويل كثير من الشركات الأمريكية إنتاجها إلى دول أخرى مثل المكسيك، فمن المرجح أن يؤدى ذلك إلى تعطل السوق الصينية والتقليل بدوره من الطلب على المواد الخام من القارة الإفريقية، لا سيما من جنوب إفريقيا، التى تستورد الصين منها ما قيمته أكثر من 500 مليون دولار سنويا من الحديد والمنجنيز وخامات الكروم. أضف إلى ذلك، اعتماد الاقتصاد المصرى بشكل متزايد على الاستثمار الصينى، حيث ضخ الأخير أكثر من 20 بليون دولار فى شكل قروض ومشاريع إنمائية فى قطاعات البنية التحتية والطاقة والاتصالات. وعلى الصين اليوم الاضطلاع بدور حاسم لمواجهة كارثة الكورونا فى إفريقيا، حيث إنها ليست معصومة من خطأ نشره فى القارة.
***
ولا يبشر ذلك كله بالخير للقارة الإفريقية فى الفترة العصيبة القادمة. غير أن ما يُدخل التفاؤل فى نفوسنا هو ثقتنا الكاملة بأن جهود القارة ونداءاتها ستجد صداها ولن تضيع هباء. فإن وباء الكورونا بكل عيوبه القاتلة يكشف لنا التغيير الجذرى الذى طرأ على مفهوم العولمة. فإنه لم يعد المفهوم الذى سعت الإدارة الأمريكية إلى زرع بذوره بالقوة وإن جاء تعبير ترامب للفظه لأنه لم يحقق مراده وفتح أسواق العالم للسيطرة الأمريكية، بل إن مفهوم العولمة اليوم يقوم على أسس إنسانية سليمة للتضامن وتعاون دول العالم لا يفرق بين دول نامية ومتقدمة. فقد هبت مصر والصومال وغيرهما لمساعدة إيطاليا الذى يحتل اقتصادها المرتبة السابعة من بين اقتصاديات العالم، ومن المؤكد أن الدول المتقدمة والقادرة لن تتقاعس أمام مسئوليتها العالمية لنحارب جميعنا سويا تفشى وباء فيروس الكورونا القاتل ونتغلب عليه.

ماجدة شاهين مساعد وزير الخارجية للعلاقات الاقتصادية الدولية (سابقاً)
التعليقات