لبنان بين لعنة الطائفة والطائف والارتهان للخارج - رابحة سيف علام - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 10:32 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لبنان بين لعنة الطائفة والطائف والارتهان للخارج

نشر فى : الأحد 8 أغسطس 2021 - 8:35 م | آخر تحديث : الأحد 8 أغسطس 2021 - 8:35 م
لم يكن يجول بخيال الآباء المؤسسين للبنان الحديث عام 1920 أن النظام السياسى الهش لهذا البلد الاستثنائى سيُفلس كل فترة وتنتهى صلاحيته ويحتاج لإعادة ترتيب كى يعود إلى العمل مرة أخرى. ربما يعود الأمر للتركيبة الطائفية التعددية التى تحكم المجتمع والدولة وأدق تفاصيل حياة المواطنين. وربما يعود أيضا لكونه مطمعا بسبب موقعه الجغرافى فى ملتقى طرق تجارة دولية حيوية أو لكونه خط تماس صراعات إقليمية خطيرة. وربما أيضا لكونه يحمل بعض ملامح الشرق وبعض ملامح الغرب فيحار فيه هواة التنميط واختراع القوالب الجامدة ويطمع كل طرف أن يشده إلى جانبه ويتنازع أهله فى شأن سياستهم الخارجية ومحددات هويتهم الوطنية.
•••
هذه باختصار قصة إفلاس لبنان المعتادة، ولكن القصة الأحدث التى تفسر هذا الإفلاس الأخير لها تفاصيل أخرى. فهى قصة اقتصاد كان يقوم على الخدمات بالأساس وبالتبعية كان شديد الحساسية لأية تغيرات إقليمية أو أمنية، فلم يصمد أمام سنوات الحرب الطويلة فى الجوار وانقطاع إمداد المساعدات من الدول الشقيقة بفعل التجاذب الإقليمى. اقتصاد قام بالأساس على نظام بنكى يعد بفوائد مضاعفة لكى يتصدر مشهد الاستثمار المالى فى المنطقة على أساس الثقة المفرطة به. ولكن عندما اهتزت الثقة هربت أموال الكبار للخارج وأصبحت بمأمن فيما فقد الصغار قيمة مدخراتهم بعد انهيار الليرة مقابل الدولار وفقدانها 90% من قيمتها وعجز المصارف عن رد الأموال للمودعين فقننت الصرف من حساباتهم الخاصة. وفيما كان التشغيل يقوم بالأساس على القطاع الخاص وهذا الأخير يقوم بالأساس على الشركات الخدمية الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، كان كل ذلك كفيلا بالانهيار لحظة اهتزت الثقة فى ثبات سعر الليرة مقابل الدولار. بينما جاء الوباء ليوقف غالبية الأنشطة الخدمية التى يقوم عليها الاقتصاد، فحل الجمود وأغلقت الشركات وسُرحت العمالة وسقط أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر. فلما تناقصت الأموال من خزانة الدولة عجزت عن الوفاء بمستحقات مستوردى الوقود والطحين والأدوية فشحت المواد الأساسية المدعومة وتضاعف ثمنها فى السوق السوداء واصطف الشعب فى طوابير طويلة للحصول على أبسط احتياجاته اليومية.
•••
أما الإفلاس السياسى فمثله مثل الاقتصادى، يقف اليوم فى موقع خطير لم يبلغه من قبل. هب الشعب فى انتفاضة شعبية منذ نحو عامين ليثور على الوضع المعيشى المتردى والعجز الحكومى عن الوفاء بالوعود الانتخابية الحالمة بل والمماحكات بين طرفى النخبة الحاكمة بهامش الفشل. لفظ الشعب اللبنانى فى انتفاضة 17 تشرين/أكتوبر 2019 المعادلة الطائفية التى كانت تقوم عليها السياسة والتى أوصلت الوضع المعيشى إلى هاوية حصيلة ثقيلة من الفساد المتراكم. وهنا تبين للثائرين أن التركيبة الطائفية التى أقنعهم الزعماء بأنها تحمى وجودهم وهويتهم وكيانهم الطائفى هى ذاتها التى تخنق الأداء الحكومى وتوفر الغطاء والحماية للمفسدين ولا تسمح بتقديم خدمات عامة لائقة لشعب عانى مرارا من ويلات الحرب والسلم على حد سواء.
لم يُزح الشعب النخبة الفاسدة من السلطة ولكنه أحدث بانتفاضته شقوقا كبيرة فى تحالفاتها المصلحية الهشة فصارت هذه النخبة تزيح بعضها بعضا. وكلما طالب الشعب المنتفض بمحاسبة المفسدين واسترجاع الأموال المنهوبة وفرض الإجراءات التى تضمن كفاءة وفعالية الأداء الحكومى اتسع الشق فى تحالفات النخبة. ذلك لأن تحت سطح التركيبة الطائفية الدقيقة لتوزيع مقاعد السياسة هناك تركيبة أدق كامنة لتوزيع الثروة المنهوبة بين زعماء الطوائف ومحازبيهم. فهم فى زمن الرخاء يتنافسون على توزيع المكاسب وفى زمن الأزمات والإفلاس يتنافسون على توزيع الخسائر وتقاذف المسئولية عن الفشل.
•••
أسرع ما انشق كان تحالف الحريرى ــ عون الذى أتى بالأخير إلى موقع الرئاسة، فباستقالة سعد الحريرى بعد أيام من انتفاضة تشرين 2019، فقد ثقة الرئيس عون وفريقه وأصبح فى حكم كبش الفدا الذى يجب التضحية به. ولعل العداء بين عون والحريرى يعود إلى عهد الحريرى الأب، رفيق، الذى خرج من الرحم السعودى ليصبح عراب اتفاق مصالحة لطى صفحة الحرب ولإعادة تقاسم السلطة بين الطوائف عُقد عام 1989 فى مدينة الطائف السعودية وسُمى باسمها. حينها كان الرئيس عون فى القصر الرئاسى باعتباره قائد الجيش الذى يُدير حكومة عسكرية من لون طائفى واحد بعد استقالة أعضائها من الضباط المسلمين لحظة الإعلان عنها.
لم يكن اتفاق الطائف هو من اخترع التقاسم الطائفى للسلطة ولكنه عدل فيه ومأسسه. أدخل اتفاق الطائف تعديلا جوهريا على الدستور بحيث نقل السلطات من رئيس الجمهورية المارونى لتصبح بيد مجلس الوزراء مجتمعا، وهذا الأخير يرأسه رئيس الوزراء السُنى، فيما يرأس مجلس النواب شيعى. كانت صيغة التقاسم حاضرة منذ الاستقلال ولكنها تمأسست فى الطائف وأصبحت القرارات الحكومية غير نافذة إلا بتوافق كل أعضائها من كل الطوائف وبتوقيعين الأول لرئيس الحكومة والثانى لرئيس الجمهورية. ثم أصبح أخيرا للشيعة توقيع ثالث موازٍ بعد تمسكهم فى حكومة بعد أخرى بموقع وزير المالية ليكون توقيعه هو المُفعل الحقيقى للقرار الحكومى والراصد لميزانية تنفيذه.
رفض عون الطائف وتمسك بالسلطة فى لحظة أفول عصر وبداية آخر مع تداعيات انهيار المعسكر السوفيتى وحرب الخليج فتم إزاحته بالقوة بمساعدة سوريا التى أصبح لها يد طولى فى تسيير الشأن اللبنانى. استمرت الوصاية العسكرية والسياسية السورية على لبنان حتى انسحاب جيشها بعد اغتيال رفيق الحريرى عام 2005 ثم حل محلها وصاية من خلف الستار لحزب الله على المشهد اللبنانى، وهو ذراع إيران الطولى بالمنطقة. عاد حينها عون إلى لبنان من منفاه الفرنسى ليعد بعهد جديد، لكنه وهو الطامح للعودة إلى القصر الرئاسى لم يجد بدا من التحالف مع حزب الله، كى يضمن أصوات الطائفة الشيعية فى تنصيبه فى الرئاسة. وعندما تولى الرئاسة فعليا فى 2016 كان ذلك بأصوات كتلته وكتلة حلفائه من حزب الله ولكن الصوت الحاسم كان لكتلة الحريرى التى اكتمل بها النصاب.
•••
أحد ملامح الأزمة فى تشكيل الحكومة اليوم هو التنازع على قرارها من قبل أن تولد، فهى ستعد خطة اقتصادية إصلاحية تسمح بتلقى المساعدات الدولية وستشرف على الانتخابات البرلمانية فى مايو القادم وقد يؤول إليها كل صلاحيات الرئيس فى حال فراغ المنصب دون أن ينتخب مجلس النواب خلفا له. ومن يطالب اليوم بتوسيع صلاحيات الرئيس لم يكن مشاركا فى الطائف ولذا ينازع رئيس الحكومة المُكَلفــ سواء كان الحريرى أم ميقاتى ــ فى صلاحياته وربما يُنكر بالكُلية أن لبنان قد تحول منذ الطائف من النظام الرئاسى إلى البرلمانى. ولكن لعل الأجدى لمستقبل البلاد ليس إنكار الطائف بل البدء فى تنفيذ مقرراته التى لم تنفذ قط، وأبرزها خطوات إلغاء الطائفية السياسية وما يستتبعها من إلغاء الطائفة من بطاقة الهوية. ومن ثم يصبح التمثيل الطائفى محصورا فقط بمجلس شيوخ يتم إنشاؤه بعدد محدود من الأعضاء، بينما يصبح التمثيل فى مجلس النواب بالانتخاب على أساس الجدارة فقط دون الالتفات للطائفة والمذهب. ولحين تنفيذ ذلك يظل الأمل معلقا على أصوات الحراك الشعبى لقوائم مستقلة فى الانتخابات البرلمانية القادمة كى تكسر احتكار الطبقة السياسية وتدخل إلى مطبخ صنع القرار اللبنانى.
رابحة سيف علام باحثة بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام
التعليقات