دعوا الأماكن تتحدث عن نفسها - رابحة سيف علام - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 8:41 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دعوا الأماكن تتحدث عن نفسها

نشر فى : الإثنين 23 يناير 2023 - 7:10 م | آخر تحديث : الإثنين 23 يناير 2023 - 7:10 م
قبل أقل من شهرين كنت فى مهمة عمل فى العاصمة البلجيكية بروكسل، وبعد يوم طويل من العمل كنت متشوقة للغاية لمتابعة أى حدث ثقافى يجرى هناك بالتزامن مع وجودى. بحثت كثيرا فى أجندة الفاعليات الثقافية ولكن نظرا لضيق الوقت واقتراب موسم الفاعليات الثقافية الخاصة بالكريسماس بدا أن كل الأحداث الهامة ستبدأ بعد مغادرتى ببضعة أيام، فاكتفيت بالتنزه فى ساحات المدينة متحسرة ومشاهدة للمتاحف من الخارج بعد انتهاء مواعيد استقبال الجمهور. باغتتنى لافتة كبيرة تدعو المارة لزيارة بروكسل بشكل استثنائى ومدهش، لم أفهم كيف أزورها بشكل مدهش وأنا فيها بالفعل، ولكن بعد سؤال القائمين على مدخل المبنى الذى يحمل هذه اللافتة فهمت أن الزيارة هى حضور عرض استثنائى عن تاريخ المدينة. دخلت إلى المبنى واشتريت تذكرة وأنا أتحسر أننى لم أتمكن من حضور أى عرض مسرحى، وقلت لنفسى هذا أفضل من لا شىء. سألت القائمين على العرض كى أصبر نفسى هل هو عرض مسرحى، فقالوا لا بل أفضل! لحظات من الظلام الغامض والمشوّق ثم بدأ العرض، الذى كان بالفعل أفضل للغاية!
• • •
هو عرض صوتى وضوئى يأخذنا فى جولة فى قصر تاريخى بُنى فى نهايات القرن التاسع عشر ليكون فندقا فى قلب العاصمة البلجيكية يستقبل القادمين من مشاهير العلماء والفنانين والسياسيين والتجار والصناعيين. العرض تفاعلى ومدهش بحق، إذ يُطلب من الجمهور، بعد أن يستلم كل منهم سماعة شخصية باللغة التى يفضلها، أن يتبعوا الممثلين من غرفة إلى غرفة ومن طابق إلى طابق داخل الفندق. فتكون كل غرفة بمثابة غرفة عرض على الحوائط بصور ومقاطع فيديو تاريخية وشرح صوتى وموسيقى مصاحب عبر السماعات ليحكى عن تاريخ الفندق التراثى بالتوازى مع سرد تاريخ بروكسل عبر العصور منذ نهاية القرن التاسع عشر. أخذنا العرض المدهش فى رحلة ثرية فى تاريخ المكان ومتى بُنى وتأسس كفندق وكيف عاصر الأحداث العالمية الكبرى كالحربين العالميتين والاحتلال النازى وعصر الكساد الكبير والتطور التكنولوجى والحركة الثقافية وتطور السينما والمسرح والتطور العلمى وما صاحبه من اكتشافات علمية. باختصار هو عرض تفاعلى للصوت والضوء والسرد التاريخى لتاريخ المدينة استنادا على تقديم نزلاء هذا الفندق من المشاهير فى كل المجالات، فذكر مشاهير النزلاء من الممثلين كان مناسبة لسرد تطور تاريخ السينما والمسرح فى أوروبا. وكذلك الأمر مع ذكر مشاهير النزلاء من العلماء والأدباء الفائزين بجائزة نوبل فكان مناسبة لسرد مراحل التطور العلمى والثقافى وكيف كانت إقامتهم أو حضورهم للعروض الفنية والثقافية فى هذا الفندق متقاطعة أو متناصة مع تاريخ بروكسل وبلجيكا وأوروبا ككل.
• • •
بعد انتهاء العرض غادرت المكان ولكنه لم يغادرنى، الجولة فى القصر كانت مدهشة للغاية، ليس فقط لمشاهدة التصميمات المبهرة لكل غرفة والطراز المعمارى المميز لها، ولكن أيضا لأن الأماكن تحمل تاريخ من زاروها وأقاموا فيها. فالحوائط شاهدة على من مر من هنا، وأصحاب هذا العرض المدهش منحوا للقصر فرصة كى يتحدث عن نفسه ويسرد تاريخ من مر من هنا وترك بصمته فيه، فهو ليس ذلك البناء الحجرى المصمت الذى يبدو من الخارج بل هو أكبر من ذلك. حينها قادنى الشوق وحبى الكبير للتاريخ والتراث المعمارى أن أتخيل كيف يمكن للأمر أن يتم تنفيذه فى مصر، لدينا المئات بل ربما الآلاف من القصور والأبنية التاريخية التى عاصرت مراحل مختلفة من التاريخ الحديث والقديم والمعاصر لمصرنا الحبيبة، ولكنها مبانٍ صامتة لا تتحدث وبالكاد تقف شامخة دون أن تجد من يزورها ويسمع ما يمكن أن ترويه لزوارها. فلنتخيل معا الفرصة السياحية والثقافية التى يمكن أن نمنحها للسياح والمصريين والمصريات عندما يتم ترميم الأبنية التاريخية باحترام طرازها المعمارى كى نحفظ لها بصمتها التراثية. ثم يعكف فريق من الباحثين فى التاريخ والمعمار على كتابة تاريخ كل بناء تراثى ويقوم فريق آخر من الفنانين على تنفيذ الإخراج البصرى والصوتى للسردية التاريخية لهذا المكان ثم يفتح أبوابه للزائرين بشرح صوتى من عدة لغات تناسب أهم الجنسيات التى تزور مصر سنويا بالإضافة للعربية بكل تأكيد.
• • •
منح الأماكن فرصة كى تتحدث عن نفسها ليس محاولة حالمة لاستحضار التاريخ واستنطاقه ولكنها فرصة اقتصادية مهمة كى نضيف إلى قائمة المزارات الأثرية والثقافية التى يمكن للسائح والسائحة أن يزورها فى مصر وبالتالى يُطيل من أمد إقامته كى يستمتع بأكبر قدر ممكن منها. كما يمنح للنشء والشباب فرصة للتعرف على تاريخ بلدهم بشكل تفاعلى جذاب، فالسرد التاريخى سيغادر الكتب الدراسية المملة وينطلق إلى حوائط الأبنية التاريخية كى يروى قصص من سكنوها أو زاروها وكيف تفاعلوا مع الأحداث التاريخية التى توالت على موقع هذا البناء أو ذاك. فمثلا منطقة القناة مرت بها أحداث تاريخية كبرى بين حرب وسلم وسكنت مبانيها جاليات أجنبية متعددة لها حكايات يجب أن تُروى وتفتح للجمهور كى يسمعها. ففى بورسعيد على سبيل المثال لا الحصر يوجد البيت الإيطالى بموقعه المتميز على مجرى القناة ولكنه مبنى مغلق وصامت ولا يروى حكايته لمن يشاهده من الخارج. وفى منطقة وسط البلد بالقاهرة هناك العشرات من القصور والأبنية التراثية الصامتة والعاجزة عن استقبال الجمهور والسياح أو رواية حكايتها لهم. فلنتذكر أن موكب المومياوات الملكية كان حدثا استثنائيا بالغ الإبهار والعذوبة ــ ولنتخيل أننا يمكن أن نجعل من هذه العروض حدثا دائما وليس عارضا، وبالتالى جاذبا للمزيد من السياح والزوار طوال العام. فهذه الأبنية ليست حجارة فقط ولكنها تاريخ وثقافة وموسيقى وصور يجب أن تُعطى فرصة كى تصل إلى المتشوقين والمتشوقات لسماع حكايات التاريخ المبهرة، ووطننا الغالى يزخر بالحكايات التاريخية المبهرة، فقط اسمحوا للأماكن والمبانى أن تتحدث ولهذه الحكايات أن تُروى وللباحثين والباحثات عن المعنى بشوق وشغف أن ينصتوا لها.
رابحة سيف علام باحثة بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام
التعليقات