لا تحظى كلمة «القراءة» باهتمام يليق بقيمتها وبجلالها فى العالمين العربى والإسلامى، وذلك فى الأرجح لأن شعوبنا تكتسب معلوماتها من «الاستماع»، وليس من «القراءة»، على الرغم من أن أول كلمة نزلت على النبى محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ كانت أمرا بالقراءة: «اقرأ باسم ربك الذى خلق...»، ولم يكتف الله سبحانه وتعالى بالأمر مرة واحدة، بل أكد قوله مرة ثانية: «اقرأ وربك الأكرم»، ولأن الله يعلم أنه لا توجد قراءة دون كتابة، فقرن الآية السابقة بقوله: «الذى علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم»، فالعلم لا ولن يأتى بالاستماع أو بالتلقين، ولكنه يُكتسب بالقراءة والكتابة، عنصران هما عنوان الرسالة المحمدية، ويتوسطهما الفهم والتعقل «أفلا يتعقلون»، «أفلا يتدبرون»، فأمرنا الله ألا نكون كمثل الحمار يحمل على ظهره كتبا لا ينتفع بها، ولا يعقل ما فيها، هكذا وصف أهل التوراة اللذين لم ينتفعوا بما فيها، وقال عنهم: «مَثَلُ الَذِينَ حُمِّلُوا التَوْرَاةَ ثُمَ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ، يَحْمِلُ أَسْفَارا، بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَذِينَ كَذَبُوا بِآيَاتِ اللَهِ، وَاللَهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَالِمِينَ» (سورة الجمعة 5).
فكان الأمر الإلهى الأول هو تعلم «القراءة» و«الكتابة» ــ المهارات الأساسية للتعليم: «هُوَ الَذِى بَعَثَ فِى الْأُمِيِينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِيهِمْ، وَيُعَلِمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ» (سورة الجمعة 2)، وذلك قبل تعلُم العقيدة والعبادات وجميع الشرائع، فهما تكليفان واضحان لكل من أراد الإيمان بالعقيدة الإسلامية، وهذا هو عكس تماما واقعنا الحالى، فنحن أمة «اقرأ» التى «لا تقرأ»!
***
ويكفينا أن ندلل على ذلك بأن نذكر نسب الأمية المرتفعة والمُخجلة فى العالمين العربى والإسلامى، فى الوقت الذى يتحدث فيه العالم المتقدم (غير العربى وغير الإسلامى!) عن القضاء على أمية التعامل مع التقنيات الإلكترونية فى الحاسب الآلى، وفى الإنترنت، ومع عالم التواصل الافتراضى (الفيس بوك، وتويتر، والاسنابشات، والانستجرام، والواتس أب)، وهذا يكشف التناقض بين النظرية والتطبيق، وبين الحقيقة والواقع، وبين الإسلام والمسلمين!
كما أن «الكتابة» هى توثيق للكلام، فكتاب الله أملاه جبريل على النبى ليكون «قرآنا»، وقد حرص كتاب الله «القرآن الكريم» على اعتبار «الكتابة» ضمن الشرائع السماوية التى لابد من تضمينها ضمن مقتضيات الحياة، فيقول سبحانه: «يَا أَيُهَا الَذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمى فَاكْتُبُوهُ، وَلْيَكْتُب بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ، وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَمَهُ اللَهُ، فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَذِى عَلَيْهِ الْحَقُ، وَلْيَتَقِ اللَهَ رَبَهُ، وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئا، فَإِن كَانَ الَذِى عَلَيْهِ الْحَقُ سَفِيها أَوْ ضَعِيفا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُهُ بِالْعَدْلِ (...)، وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرا أَوْ كَبِيرا إِلَىٰ أَجَلِهِ، ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَهِ، (...) وَاتَقُوا اللَهَ، وَيُعَلِمُكُمُ اللَهُ، وَاللَهُ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (سورة البقرة 282).
وكان النبى (صلى الله عليه وسلم) أول من حرص على تطبيق النظرية، وعرف العلاقة الوطيدة بين «القراءة» و«الكتابة»، كما عرف أن بينهما رابطة عضوية لا فكاك منها، فلا كتابة بدون قراءة، ولا قراءة بدون كتابة، فالكتابة حفظت «القرآن»، و«القرآن» فرض الكتابة علينا، ولهذا كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يكتب ما يُنزل عليه من السماء أولا بأول، ولم يكتف بحفظ القرآن فى الصدور، وتولى –من بعدهــ الخليفة عثمان بن عفان كتابة وجمع القرآن بأكمله فى شكله الحالى، وفضلا عن هذا كانت كل معاهدات النبى (صلى الله وعليه وسلم) موثقة بالكتابة.
***
وغياب فريضة «القراءة» لم تجعلنا فقط نوصف بالجهل، ولا نستطيع مسايرة التقدم العلمى الحادث فى العالم، ولكن غيابها فرض علينا الإرهاب، ففى قضية محاولة قتل أديبنا المُبدع نجيب محفوظ سنة 1995، سأل المحقق المتهم عن لماذا يريد قتل الأديب، فكانت إجابته لأنه كافر، وعندما سأله ماذا قرأ له وأين ما يثبت كفره فى كتاباته، فكانت إجابة المتهم أنه لم يقرأ له شيئا!، ولكنه سمع بهذا وجاءته أوامر قادة جماعته بقتل الأديب!
ويُعد منع رواية «أولاد حارتنا» (1959) من النشر، وتكفير مؤلفها هو سبب المشكلة، فلو كانت منشورة للعامة، وتناول النقاد شرحها، لما أعطينا للمتطرفين فرصة تكفير «وتحليل دم» الكاتب، لقد تدارك الأزهر الشريف هذا الخطأ، ووافق على نشر الرواية أواخر عام 2006 بعد رحيل نجيب محفوظ، عبر دار الشروق التى أصدرتها بمقدمة من المفكر الإسلامى أحمد كمال أبو المجد، أجاز فيها نشر الرواية وشهد بأنها عمل إبداعى ليس فيه ما يتعارض مع العقيدة!
هذه الحالة قد حدثت بالضبط من قبل مع عميد الأدب العربى فى كتابه «الشعر الجاهلى» (1926)، وقد برأته النيابة فيما نُسب إليه من الكفر، وقد كتبنا مقالا فى هذا الشأن بعنوان «تطور الأحكام القضائية فى ازدراء الأديان ومدلولاتها المجتمعية» (29/3/2016)، ورغم مرور أكثر من تسعين عاما على الحادثة، إلا أن أعمال طه حسين لا تُدرس فى أى مرحلة فى التعليم الأزهرى، كان من الممكن للأزهر الشريف أن يأخذ السيرة الذاتية للأديب: «الأيام» كمادة ثرية لتحسين نوعية التعليم وتحويله من تعليم «تلقينى» إلى تعليم «استنتاجى»، وما زال يرفض التعليم الأزهرى مواكبة تطور منظومة التعليم بالتوازى مع النظام الجديد للتعليم العام بوزارة التربية والتعليم!
ولا يزال مسلسل الجهل يفضحنا، لقد سمعنا حوارا من نائبة فى البرلمان، على شاشة إحدى القنوات العالمية والواسعة الانتشار، كيف كانت إجابتها متدنية فى الأسلوب وفى الأفكار على ادعاءات من تحاورها، كشفت ردود البرلمانية عن أنها ليس لديها معلومات دقيقة عن موضوع الحوار، ولهذا كانت الإجابات صادمة، كانت المحاورة الفرنسية متجنية فى بعض آرائها، ولكن نظرا لعدم الاطلاع والقراءة، ظهرت البرلمانية أمام المحاورة وأمام العالم أجمع فى أسوأ صورة، إن أضخم مكتبات العالم هى مكتبة الكونجرس الأمريكى، فهل البرلمان المصرى لديه مكتبة تُعين البرلمانى على الاطلاع، وتمده بالمعلومات، وهل يوجد فى المبنى الجديد للبرلمان فى العاصمة الإدارية مكان لمكتبة تليق بدور البرلمان، وبمكانته، وبالمبنى الفخم تُساعد البرلمانيين على أداء واجبهم كما ينبغي؟
***
لقد أحسنت الدولة ورئيسها باهتمامهما بافتتاح دورة «اليوبيل الذهبى» لمعرض القاهرة الدولى للكتاب، فأعدت له مكانا جديدا بإمكانيات عالية، وقد أثنى الجميع على هذا الاهتمام، ويبقى أن نشجع الشباب على قراءة الكتب «النقدية» التى توسع المدارك، وليس الاكتفاء بالقصص والروايات، كما من حقنا أن نتساءل أين مشروع «مهرجان القراءة للجميع»؟ الذى كان يقدم أمهات الكتب بأسعار زهيدة؟ فلا يجب أن يرتبط هذا المشروع الذى استمر سنين طويلة بأسماء أشخاص، لأنه عمل يفيد الوطن، وتم تمويله من أموال الدولة.
لا يجب لأى عهد جديد أن يُلغى ما تم بناؤه من أموال الشعب فى عهود سابقة، فالعهد السابق ألغى مشروع «الوفاء والأمل» لاعتبارات شخصية، علما بأن هذا المشروع كان يخدم فئة مهمة وعزيرة علينا جميعا، وهم مصابو حرب أكتوبر العظيمة، وكم نحن فى حاجة له الآن لرعاية المصابين من رجال الجيش والشرطة وعامة الشعب نتيجة العمليات الإرهابية، كما أننا أيضا فى أمس الحاجة لمشروع «دار أم كلثوم للخير»، الخاص برعاية المسنين والأيتام، والذى أعدته من مالها الخاص السيدة أم كلثوم قبل وفاتها، ودخل طى النسيان فى العهد الأسبق فى سبعينيات القرن الماضي!
وختاما، نقول لقد أخطأ المتطرفون ــ كعادتهم ــ باعتبار «الجهاد» هو «الفريضة الغائبة»، لأن الجهاد الذى يتكلمون عنه هو الجهاد فى الحرب فى حالة الاعتداء على الوطن، علما بأن هذا هو الجهاد «الأصغر»، كما وصفه نبينا الكريم، وأما الجهاد الأعظم فهو جهاد النفس الذى لن يتحقق إلا بالتعليم الجيد وبالقراءة! ولو أن المهندس محمد عبدالسلام فرج مؤلف كتاب «الفريضة الغائبة» 1981 (أحد قتلة السادات) قد قصد بالفريضة الغائبة غياب «القراءة»، وليس القتل، لكان للأمة العربية والإسلامية ولمصر خاصة شأن آخر!
أستاذ الأدب واللغويات بقسم اللغة الفرنسية بجامعة الملك سعود بالرياض
الاقتباس
لقد أحسنت الدولة ورئيسها باهتمامهما بافتتاح دورة «اليوبيل الذهبى» لمعرض القاهرة الدولى للكتاب، فأعدت له مكانا جديدا بإمكانيات عالية، وقد أثنى الجميع على هذا الاهتمام، ويبقى أن نشجع الشباب على قراءة الكتب «النقدية» التى توسع المدارك، وليس الاكتفاء بالقصص والروايات.