خلال حضورى اجتماعا دوليا كبيرا أخيرا، ومشاركتى كمتحدث رئيسى فى جلسة عامة هامة فى اليوم الأول للمؤتمر، مع شخصية أمريكية عسكرية سابقة مهمة ومعروفة، كان له دور رئيسى بالعراق وأفغانستان أشار الأخير مستغربا ومنتقدا أن إسرائيل لا تتبنى خططا عسكرية سليمة لتحقيق هدفها المعلن وهو القضاء على حماس، ونادى صراحة بسيطرتها على المزيد من الأرض بما فى ذلك محور فلادلفيا.
لم أناقش المتحدث فى الجوانب العسكرية وإنما نقلت إليه أن العمل العسكرى هو أداة لتحقيق هدف سياسى وليس العكس، وأن تجربة أمريكا فى العراق وأفغانستان لم تكن بالنجاح المنشود، وأعربت عن استغرابى أن يتوقف عند مقولة القضاء على حماس، دون أخذ فى الاعتبار الخسائر الإنسانية الفلسطينية الفادحة، ومواقف وتصريحات الحكومة الإسرائيلية المتطرفة وخطتها العسكرية، والتى تعكس أن الهدف الحقيقى هو القضاء على القضية الفلسطينية بالكامل بالتهجير بمختلف الأساليب، بما فى ذلك تجميع الفلسطينيين فى مناطق محددة بالقطاع للضغط عليهم، والتوسع الاستيطانى فيها والضفة أيضا.
ولم يتردد وزير الخارجية الإسرائيلى أخيرا أن يعلن صراحة استبعاد بلاده كليا فكرة إنشاء دولة فلسطينية من حيث المبدأ، وأعلن الوزير الإسرائيلى بن غفير أن حل الوضع بغزة بالدم وليس بالتفاوض منتقدا جهود المبعوث الأمريكى ويتكوف، وللأسف أيده أيضا السفير الأمريكى بإسرائيل عندما طالب الرئيس الفرنسى بتخصيص أرض فرنسية لإقامة الدولة الفلسطينية، إذا كانت فرنسا تود الاعتراف بها.
القضاء على القضية الفلسطينية كاملة هو الهدف الحقيقى والجوهرى لتراجع إسرائيل عن تنفيذ المرحلة الثانية لوقف إطلاق النار الذى تم التوصل إليه منذ أشهر بجهود مصرية وقطرية وأمريكية، واستمرار الحرب نحو هذا الهدف هو الملاذ الإسرائيلى الآمن لرئيس الوزراء نتنياهو والذى يحافظ أيضا على استمرار التوجه اليمينى المتطرف داخل الائتلاف الحكومى.
ولا يخفى على أحد أن الرأى العام العالمى أصبح ناقما بشدة على إسرائيل ورافضا لسياساتها وممارساتها غير الإنسانية، وقد أثار المقترح الأمريكى والجهد الإسرائيلى لتهجير الفلسطينيين غضبا عالميا واسعا، وهناك استهجان لمنطق وملاءمة وواقعية تهجير مليونى فلسطينى خارج أراضيهم، فى الوقت الذى يشار فيه إلى صعوبة ترجمة الدعوة الى حل الدولتين إلى حيز التنفيذ لوجود ٧٥٠ ألف إسرائيلى على أراضٍ فلسطينية محتلة فى الضفة الغربية لنهر الأردن.
ومع كل هذا نرى المجاعات الفلسطينية تتوسع وتتعمق، والضحايا الفلسطينية تتزايد وتتضاعف، ولا مبالاة إسرائيلية كاملة، والسؤال العاجل هو: ما هو المطلوب من المجتمع الدولى للتعامل مع وتغيير هذا الواقع المؤلم؟ الذى يجعلنا جميعا نفقد إنسانيتنا ومصداقيتنا كدول ساعية إلى الأمن والأمان ومتمسكة بالحق ورافضة للباطل، والسؤال يطرح ويتكرر بإلحاح سعيا للتوصل إلى إجراءات تحرك الأمور وترفع المعاناة وتضع النزاع على طريق الحل والحسم، بما يؤمن كل الشعوب ويوفر للمنطقة والعالم الأمن والاستقرار، إجراءات محددة وملموسة توقف الاقتتال وإهدار الدماء، فلم تعد الظروف تسمح بالاكتفاء بالشجب أو الإدانات.
وليس من المبالغة القول إن الأوضاع لن تتقدم، بل ستزداد سوءا، إذا لم نتخذ إجراءات واضحة ومحددة على مسارين متوازيين، أولهما التوسع فى اعتراف الدول بالدولة الفلسطينية تحت الاحتلال على أساس حدود ١٩٦٧، لكى يشعر الشعب الفلسطينى بأن حلمه مستوعب ومدعم، ولكى تعلم الساحة الإسرائيلية أن التمادى فى الغطرسة واللجوء إلى العنف له رد فعل عكسى ويخلق دعما سياسيا أوسع لحل الدولتين.
والمسار الآخر وله نفس الأهمية إن لم يكن يتجاوز المسار الأول فى أهميته فهو الاتفاق على مجموعة من الإجراءات لمحاسبة المخالفين للقانون الدولى العام والإنسانى على المستويين الشخصى والمؤسسى، أى بتطبيق الإجراءات العقابية إزاء الجرائم ضد الإنسانية وتحميل القادة والمؤسسات مسئولية تلك الإجراءات، فضلا عن وقف تصدير السلاح واتفاقات التعاون مع إسرائيل طالما استمرّت رافضة لوقف إطلاق النار وتفرض التهجير القسرى والإبادة الجماعية وهناك العديد من التشريعات الوطنية والدولية التى توفر الآليات الملائمة لذلك، والغرض هنا أن يشعر المجتمع الإسرائيلى بأكمله أن هناك عواقب باستمرار تطبيق سياسات واتباع ممارسات مرفوضة ومحرمة دوليا، ويجب أن ينطبق نفس الشىء على التجاوزات الإسرائيلية بضم أراضى الضفة أو الجولان.
ويعقد بنيويورك خلال شهر يونيو الجارى المؤتمر الذى تنسقه المملكة العربية المتحدة وفرنسا حول سبل ترجمة هدف إقامة حل الدولتين إلى حيز التنفيذ، وهناك إعداد مسبق مكثف تمهيدا لانعقاده، وعدد من اللجان المتخصصة فى مجالات مختلفة لاستكمال الصورة والاتفاق على الإجراءات والترتيبات، وهى فى حد ذاتها خطوة جيدة توفر فرصة لخلق زخم سياسى متصاعد ضد الإجرام فى غزة والسعى نحو حل الدولتين.
وأعتقد أن المؤتمر يجب أن يسبقه ويعقبه مجموعة خطوات نحو زيادة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، لأن دعم المسار السلمى لحل النزاع لن يتم إلا بحشد التأييد الواضح للحق الفلسطينى المشروع على المستوى الوطنى والإقليمى والدولى.
ويجب أن يصدر عن المؤتمر أيضا عدد من الإجراءات والتوصيات لمحاسبة الإسرائيليين على تجاوزاتهم كرسالة واضحة وقاطعة أن ممارساتهم لن تمر مرور الكرام وأن المجتمع الدولى لن يقف مكتوف الأيدى ساكنا أمام تجاوزات تتعارض مع الأعراف الدولية.
وإذا اتخذت الدول المواقف المناسبة وصدر عن المؤتمر القرارات الداعمة وإجراءات المحاسبة أعتقد أن الساحة الإسرائيلية قد تيقن أن سياساتها الحالية للقضاء على القضية الفلسطينية ستنتهى بالفشل وأن ممارساتها الأمنية غير الإنسانية تحميلهم جميعا عواقب وخيمة، وإذا ثبت هذه الرؤية يمكن طرح خطة متكاملة تشمل الوضع بغزة وفقا للمقترح المصرى العربى تنفذ خلال ثلاث سنوات، مع وضع خريطة طريق لإقامة دولة فلسطينية على أساس حدود ١٩٦٧ خلال خمس أو ثمانى سنوات، مع تأكيد إمكان إقامة علاقات طبيعية بين إسرائيل والدول العربية حينذاك مع إنهاء الاحتلال، وإقامة مؤسسة ومنظومة إقليمية أمنية بين الدول غير المحتلة لأراضى الغير، والمقصود هنا إقرار هذه الصفقة إقليميا دوليا بما فى ذلك من مجلس الأمن الدولى، بما يحقق التزاما مسبقا ومتكاملا بالأهداف ولا يترك إلا الجوانب التفصيلية والإجرائية للتفاوض.
وأعود وأكرر فلا مجال للتأثير أو تغير الساحة السياسية دون دعم المحتل المظلوم ومحاسبة دولة الاحتلال غير الإنسانية المتجاوزة كل قواعد القانون الدولى والإنسانى.
وزير الخارجية الأسبق
نقلا عن إندبندنت عربية