لخص هتاف واحد تردد فى ميدان التحرير قبل ثمانى سنوات الحالة المعنوية العامة لحظة تخلى الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» عن الحكم: «ارفع رأسك فوق أنت مصرى».
كانت تلك واحدة من اللحظات الملهمة فى التاريخ الحديث التى تأكدت فيها قوة المجتمع وقدرته على صنع مصيره ومستقبله وفق إرادته الحرة، غير أن الآمال التى حلقت سرعان ما تبعثرت.
كانت الخطيئة المؤسسة لانكسار ثورة «يناير» أنه لم تحدث مساءلة سياسية للنظام الذى أطاحه شعبه، ولا فتحت الملفات التى كان يجب أن تفتح حتى لا تتكرر الأخطاء نفسها مرة أخرى، ولا أزيح الستار عن أية وثائق تكشف وتبين حجم ما ارتكب من أخطاء وخطايا بينها تهميش الدور المصرى فى محيطه العربى وقارته الإفريقية وعالمه الثالث.
حين غابت المساءلة السياسية انفسح المجال واسعا أمام كل من يريد طعن الثورة فى أهدافها ومداها وشرعيتها نفسها.
المساءلة السياسية قضية عدالة انتقالية موضوعها الحقيقة لا الانتقام.
من بين ما لم يفصح عنه حدود الدور الذى لعبته الولايات المتحدة فى صعود وسقوط «مبارك».
لماذا راهنت عليه؟.. ولماذا تخلت عنه؟
هناك شهادات أمريكية عديدة من داخل كواليس الحكم عن أسباب التخلى عن «مبارك»، فقد استنفد دوره وبات وجوده عبئا عليها.. فيما لا توجد شهادات بذات درجة الصدقية عن أسباب الرهان عليه، حيث النهايات موصولة ببداياتها.
فى صباح الاثنين (٥) يناير (١٩٨١) نشرت صحيفة «الجيروزاليم بوست» الإسرائيلية تقريرا فى أعلى يسار صفحتها الأولى كتبه محررها لشئون الشرق الأوسط عن صعود نفوذ النائب «حسنى مبارك» وصراعات السلطة فى مصر.
صودرت أعداد الصحيفة الإسرائيلية، ونشرت وكالة «أنباء الشرق الأوسط» برقية موجزة تصف المعلومات بـ«الادعاءات والأكاذيب» دون أن تشير إلى طبيعة مادتها.
فى ذات اليوم قرر «السادات» إنزال عقاب جماعى بالصحيفة ومحرريها: ممنوع دخول أية أعداد منها، أو منح أى من محرريها تأشيرة دخول.
فى اليوم التالى «الثلاثاء» اعتبرت «الجيروزاليم بوست» الإجراءات بحقها هى الأولى من نوعها ضد صحافيين إسرائيليين منذ السماح لهم بالعمل فى مصر بعد زيارة القدس.
نشرت تقريرا ثانيا لنفس المحرر فى نفس الموضوع أعقبه تقرير ثالث بعد يوم آخر يناقش خلافات التكتيك بين «السادات» و«مبارك» فى قضية السلام والتطبيع مع إسرائيل.
ناقض الكلام الإسرائيلى كليا الصورة التى استقرت عن «مبارك» فى تلك الآونة وقللت من شأنه وسخرت منه، فهو قوى وينازع على السلطة وله أنصار فى القصر الجمهورى.
فى الكلام روايات يصعب التسليم بمبالغاتها، لكن التأكيد عليه لثلاث مرات متتالية فى أهم صحيفة إسرائيلية يشير لحقائق غاطسة لا نعرفها حتى الآن.
لم يقرأ «السادات» الغاضب ما خلف النصوص من رسائل إلى المستقبل القريب.
لم يتوقف بالتنبه الكافى عند فقرة أشارت إلى تقرير جديد للمخابرات الأمريكية يقول نصا: «يكفى السادات عشر سنوات فى الحكم وعليه أن يتركه لمبارك».
ذلك ما تحقق بعد شهور قليلة من نشر النص المثير.
استحوذ على تفكير «السادات» هاجس «هيكل».. وذهب تفكيره إلى أنه هو مصدر معلومات التقرير الموسع.
طرح هواجسه أمام وزير الإعلام والثقافة «منصور حسن»، وهو مقرب ومحل ثقته.
استبعد الوزير الشاب الفكرة تماما: «يا فندم.. هيكل لا يتصل بالإسرائيليين».
لكن هواجسه لم تغادره ودعا وزير إعلامه أن يستقصى الحقيقة بنفسه من رئيس تحرير «الجيروزاليم البوست»، الذى طلب زيارة القاهرة لإنهاء الأزمة مع الرئيس المصرى.
عندما وصل إلى القاهرة توجه مباشرة إلى مكتب السفير «حسن عيسى» مدير مكتب وزير الإعلام، لينتقل معه إلى منزل الوزير الذى وجه له سؤالا مباشرا: «لا أريد أن أعرف مصادر صحيفتك فى القاهرة.. لكن قل لى نعم أم لا.. هل هو هيكل؟».
كان الرد: «لا».
لماذا تصور «السادات» أنه «هيكل»؟
وما الذى أغضبه إلى هذا الحد؟
لا بد أن شيئا حقيقيا حوته النصوص الإسرائيلية.
استمعت إلى القصة المثيرة من «منصور حسن» فى لقاء ضمنا بصالون بيته على كورنيش الزمالك وفكرة ترشحه للرئاسة يجرى تداولها على نطاق واسع.
كان ذلك داعيا لمحاولة الوصول بكل طريقة ممكنة للتقارير الإسرائيلية الثلاثة حتى تتضح الأسباب، التى دعت «السادات» إلى توجيه أصابع الاتهام إلى «هيكل».
لم تكن تلك المقالات على الموقع الإلكترونى لـ«الجيروزاليم بوست»، فتاريخ نشرها يسبق إنشاء الموقع بسنوات طويلة.
بمعاونة صحافيين فلسطينيين خلف الجدار جرى الوصول إليها من أرشيف الصحيفة.
استرعى انتباه بعض العاملين فى الصحيفة الإسرائيلية أن هناك من ينقب عن شىء ما فى الأرشيف، وكانت هويتهم العربية كافية لطردهم، لكنهم حصلوا على غنيمتهم بطريقة أخرى، وأرسلت على عجل إلى القاهرة عبر أمستردام.
كانت تلك القصة المجهولة موضوعا لحوار بين الأستاذين «محمد حسنين هيكل» و«منصور حسن»، وبعض ما ورد فى الصحيفة الإسرائيلية نشرته فى صحيفة «الشروق» (٤) يونيو (٢٠١٢) عن «السادات ونائبه الغامض».
بما هو متاح من وثائق مؤكدة، فإن جهات عديدة فى الغرب كانت تعرف عن النائب أكثر مما هو ظاهر على سطح الحياة السياسية المصرية.
بقوة وثيقة حصل عليها الأستاذ «هيكل» فإنه جرى التعرف على النائب «مبارك» عن قرب شديد أثناء تمثيله لمصر فى مجموعة «السفارى» الاستخباراتية مع دول أخرى فى الإقليم، تشمل إسرائيل لمطاردة النفوذ السوفييتى فى إفريقيا.
كان «أشرف مروان» هو ممثل مصر فى مجموعة «السفارى» حتى حل مكانه «مبارك».
هكذا تبدت فرضية رئيسية أن «مبارك» هو خيار الولايات المتحدة وإسرائيل لخلافة «السادات».
إثبات الفرضيات مسألة وثائق لم يتح أبدا الاطلاع عليها باستثناء ما أمكن الوصول إليها باجتهادات صحفية.
إلى حدود بعيدة بدا «مبارك» مأمونا وموثوقا فى ضمان المصالح الأمريكية والإسرائيلية أكثر من الرجل الذى وقع معاهدة السلام.
سألت الأستاذ «هيكل»: «هل كان السادات ضحية لشىء ما جرى فى الظلام؟».
أجاب: «لا.. كان ذلك اختياره».