بعنوان «الاقتصاد المصرى لا ينمو بل ينهار»، نشرت مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية مقالا الأسبوع الماضى ينتقد الخطاب السائد فى الأوساط الدولية بأن الاقتصاد المصرى على مسار سليم للنمو بعد نجاح برنامج الإصلاح الاقتصادى، ويقدم طرحا مغايرا بأن السياسات الاقتصادية الراهنة تتجه بالبلد نحو الإفلاس والانهيار.
وكان من الممكن أن يمر المقال مرور الكرام لولا أن كاتبه قيادى بارز بجماعة الإخوان المسلمين ووزير سابق للاستثمار فى حكومة الدكتور هشام قنديل عام ٢٠١٣، وأنه منشور فى مجلة أمريكية رصينة وواسعة التأثير فى الأوساط السياسية والحكومية. ولهذا انتشر المقال خلال الأيام الماضية داخل مصر وخارجها مثيرا خلافا واسعا حول دقة الأرقام التى تضمنها، وسلامة المنهج الاقتصادى الذى احتكم إليه.
والواقع أن المقال، فى تقديرى الخاص، ليس اقتصاديا ولا ينبغى أن يؤخذ باعتباره كذلك رغم استناده لبعض الأرقام والإحصاءات المتعلقة بالدين العام، بل رسالة سياسية واضحة الهدف، وهو إقناع الرأى العام العالمى بأن السياسات الاقتصادية الراهنة ستدفع بمصر نحو الإفلاس أولا ثم الانهيار الاقتصادى، وأن هذا الانهيار سوف يعقبه تفكك سياسى على نحو ما جرى فى بعض بلدان المنطقة منذ سنوات، الأمر الذى سيؤدى إلى موجة جديدة وواسعة من الهجرة غير الشرعية، ولذلك ــ وهنا نأتى لبيت القصيد ــ فعلى العالم أن يتدخل سريعا قبل وقوع هذه الكارثة الوشيكة والحتمية.
ولأن المقال سياسى لا اقتصادى، فقد اختار مفرداته بعناية واجتزأ من الحقيقة ما يحقق غرضه، مبرزا ارتفاع الدين العام وتكلفة خدمته ولكن متجاهلا زيادة معدل النمو وانخفاض البطالة واستقرار سعر الصرف وهى مؤشرات هامة ولا يمكن تحليل الوضع الاقتصادى المصرى دون الإشارة إليها. ولهذا أيضا اختار كاتبه أن ينشره فى واحدة من أكثر المطبوعات قربا وتأثيرا فى دوائر صنع القرار الأمريكى. وأخيرا فقد خلا من أى اقتراح أو نصيحة حول كيفية الخروج من المأزق الاقتصادى الذى وصفه باستثناء الدعوة للتدخل الأجنبى لأن غرضه ليس النصح بل استدعاء الخوف الدولى من الهجرة غير الشرعية فى ظل أوضاع عالمية يسيطر عليها الخطاب المعادى للهجرة وللمهاجرين.
ولكن أيا كان هدف المقال، سياسيا كان أم اقتصاديا، فإن السؤال يظل قائما عن الوضع الاقتصادى الراهن، وهل يتجه نحو النمو أم الانهيار.
رأيى الخاص أن برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى طبقته مصر خلال السنوات الثلاث الماضية نجح فى تحقيق مكاسب مهمة على صعيد المؤشرات الكلية وفى مواجهة قضيتى دعم الطاقة وسعر الصرف بحسم افتقدته الحكومات السابقة وفى تحقيق معدل مرتفع للنمو. ولكن ما جرى أن هذا الإصلاح الكلى لم يواكبه إصلاح مماثل فى مناخ الاستثمار ولا توجه سليم فى أولويات الإنفاق العام، الأمر الذى ترتب عليه الغلاء الشديد الذى عانى منه الناس مع تدهور فى الخدمات العامة.
ولكن ما سبق لا يعنى أننا أمام خطر الإفلاس الذى حذر منه المقال المشار إليه ولا أمام انهيار حتمى للاقتصاد ولا الدولة، بل نحن أمام ظرف يحتاج لموجة ثانية من الإصلاح الاقتصادى، تستكمل ما تم إنجازه على المستوى الكلى، وتطلق طاقات الاستثمار والتشغيل والتصدير، وتعيد صياغة دور الدولة فى الاقتصاد، وتوجه الموارد العامة نحو المشروعات والخدمات التى تساهم فى تحسين معيشة المواطنين. وأظن أن الحاجة لهذه الموجة الثانية من الإصلاح أصبحت أخيرا محل إجماع بين كل المعلقين والأطراف المعنية بالشأن الاقتصادى حتى فى تقارير المؤسسات الدولية.
خطأ مقال «فورين بوليسي» أنه بدأ بمقدمات سليمة وإحصاءات ليست محل خلاف حول الدين العام والتضخم وكلها مثبتة فى التقارير الرسمية، ولكنه انتهى إلى نتائج غير سليمة حول الإفلاس الوشيك والانهيار الحتمى لأن رسالته سياسية وهدفه استنفار حالة العداء الدولية ضد الهجرة والمهاجرين. والخطأ الأكبر أنه لا ينحاز حقيقة لصالح الشعب المصرى ولا يقترح مخرجا من الأزمة، بل يراهن على فشل الدولة، وهذا فى تقديرى ما يفقده المصداقية برغم انتشاره.
أما الانتشار فسببه فى النهاية هو الحالة التى آل إليها إعلامنا الوطنى وجعلت الناس تبحث عن الحقائق وعن المناقشات فى كل مكان متاح أيا كانت مصادره ودوافعه، ولهذا حديث آخر.