هو ده كتير؟.. سؤال للجنة الخمسين - أميمة كمال - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 6:13 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هو ده كتير؟.. سؤال للجنة الخمسين

نشر فى : الأربعاء 11 سبتمبر 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 11 سبتمبر 2013 - 8:00 ص

«كل اللى بتمناه من الدنيا عنوان بيت، أكتبه فى طلب، أقدمه لدخول أبنى المدرسة. عايزه يكمل تعليمه. وميطلعش زى أبوه مش متعلم. أنا عايزه يعرف يتكلم زيكم. مش عايز أكتر من كده. هو ده كتير؟». قالها الشاب محمد الجزار بينما كانت عيناه تدمعان، وعاد من على المنصة إلى كرسيه متجنبا النظر إلى أحد، ودون أن ينتظر إجابة عن سؤاله.

 هو ده كتير؟ كان سؤاله فاضحا. ولم يستطع أحد من الحاضرين التطوع بالرد عليه. الحاضرون فى تلك القاعة الصغيرة كانوا نوعين الأول هم من تمنى الشاب محمد أن يصبح ابنه مثلهم، وكلهم بدا عليهم أنهم أكملوا تعليمهم الجامعى، وبعضهم كانت كلماته تخرج مطعمة باللغة الإنجليزية. أما بقية الحاضرين فكانوا من عينة الشاب محمد، ويلح بداخلهم نفس سؤاله، دون أن يخرج من أفواههم. هو ده كتير؟.

محمد ليس لديه عنوان، بالرغم من أن يعيش فى شقة من شقق محافظة القاهرة ولكنه استولى عليها بوضع اليد، لذلك لا يملك لها أوراقا رسمية. وترفض المحافظة تخصيصها له بالرغم من أن الشروط تنطبق عليه.

●●●

الحاضرون كانوا خليطا غير متجانس. لا الملامح هى ذاتها، ولا الملابس هى نفسها، ولا اللغة تطابق اللغة. ولكن الحقوق التى يرفعونها هى عين الحقوق. حق الأرض والسكن هو ما جمعهم فى تلك القاعة الضيقة بنقابة الصحفيين. عشرات فقط هم من تذكروا كارثة منطقة الدويقة التى مات فيها يوم 6 سبتمبر، قبل خمس سنوات، أكثر من مائة من البنى آدمين الذين هم فى العرف الحكومى مصنفون تحت خانة «عشوائيين». والذين صبروا طويلا أملا فى أن توفر لهم الحكومة سقفا ترفعه أربعة حوائط تضمهم مع أسرهم فى منطقة آمنة. ولما طال صبرهم أختاروا هم بأنفسهم عنوانا عشوائيا لهذه الحوائط الأربعة، هناك تحت أو بجوار صخرة الدويقة، وماتوا فى نفس المكان الذين أختاروه للحياة. وموتهم سطر تأريخا «لليوم المصرى للسكن».

واختار القائمون على كل من المركز المصرى للإصلاح المدنى والتشريعى، ومنظمة العفو الدولية ذلك اليوم، ليس من أجل إحياء ذكرى من ماتوا، ولكن للتذكير بحقوق الذين مازالوا أحياء. فجاءت شهادات البشر لترد بالإجابة بنعم على سؤال الشاب محمد. هو ده كتير؟.

●●●

القاعة الضيقة التى كانت موقعا لحوار ذكرى الدويقة، طوال نهار السبت الماضى، بدت على صغر مساحتها واسعة بما استوعبته من شهادات حية يتقاسمها بشر محرمون من حق الأرض والسكن. أصحاب الحكايات هم من سكان الدويقة والنهضة ومنطقة ماسبيرو ومن وادى القمر فى الإسكندرية ومن الصحابى بأسوان ومن سيناء والنوبة.

لم يبد على أحد من أصحاب الحكايات أنه يعرف أن «العهد الدولى للحقوق الإقتصادية والإجتماعية» والذى تلتزم مصر ببنوده يحظر عمليات الإخلاء القسرى للسكان من مساكنهم إلا كملاذ أخير، وبعد التشاور معهم واطلاعهم على أسباب الإخلاء. وألا يتم الإخلاء فى ظروف جوية سيئة أو اثناء الليل. ولم يكن أحد على علم بأن الحكومة المصرية ملتزمة باحترام وحماية الحق فى السكن، بل وبتوفير الضمان القانونى لشغل المسكن للأسر التى تفتقر للحماية. أى أن الإخلاء للسكان لأسباب المنفعة العامة، أو لمجرد تأشيرة من رئيس الوزراء لأسباب غير محددة كما جاء فى القانون المصرى ليس أمرا قدريا علينا قبوله.

ولكن كان يبدو أن البعض متمسكا بما شعر أنه حقوقه الإنسانية دون أن يعرف أنها جاءت فى المواثيق الدولية. فها هو ذلك الشاب الذى يعمل مدرسا والمقيم فى منطقة ماسبيرو، مازال متمسكا بحلمه الرومانسى وهو حق الاحتفاظ بذكريات البشر. فمحمود شعبان يتحدث عن ذكرياته فى المدرسة التى تعلم فيها الإمساك بالقلم لأول مرة، وفى الشارع الذى كان يسير فيه مع زميل دراسته، وباب البيت الذى كان يجلس أمامه مع جاره بالساعات هربا من حر الشقق الضيقة الخانق فى ايام أغسطس. وأشياء صغيرة قد لا تكون لها قيمة عند مسئولى الحى الذين لا ينشغلون بمثل هذه الأشياء، بل قد يعتبرونها من الرفاهية التى تتعدى حقوق الفقراء، ولكنها أشياء يعتبرها محمود وأهله من أبسط حقوق الإنسان. كل ما يطالب به محمود ورفاقه فى الحى ألا ينتزعهم أحد من أرضهم. ولكن أن تقوم الشركات الاستثمارية التى اشترت الأرض ببناء عمارات مرتفعة تتسع لجميع سكان المنطقة. هو ده كتير؟.

وربما لا يبدو الأمر مختلف كثيرا لسكان ماسبيرو. فسواء كانوا على علم بأن العهد الدولى يوفر حماية عن طريق حق الحيازة الآمنة للمسكن حتى لأصحاب العشش وسكان العشوائيات الذين حصلوا عليها بشكل غير رسمى. أو لم يكونوا يعرفون فلا يبدو أن تلك المواثيق الدولية قادرة على حماية السكان من التحالفات الوثيقة بين أجهزة الأمن ومسئولى الأحياء ورجال الأعمال. فعندما تتوحد المصالح والمغانم تذهب الذكريات إلى الجحيم. فتسليم مفتاح المنطقة إلى الشركات العقارية التى اشترتها من الحكومة من أجل تحويلها إلى أبراج وبنايات تجارية ومولات ومطاعم سياحية وجراجات قد لا يجعل لحديث ذكريات السكان موضعا على الأرض.

●●●

والحقيقة أن ظاهرة خلع الناس من جذورهم وحرمانهم من ذكرياتهم ليست هى أبغض الحلال. ولكن أبغضه هو إلقاؤهم فى مناطق غير آدمية يدفعون فيها ايجارات أعلى مما يدفعه الأغنياء. ولا يجدون مدارس أو مستشفيات ولا فرصا للعمل.

فليست الذكريات هى ما يبحث عنها الجميع. ولكن هناك آخرين رضخوا للأمر الواقع، وقبلوا بمسكن بديل عن منطقتهم التى نزعوا منها، ورضوا بالاستغناء عن كل ذكرياتهم مقابل سكن آدمى. ويبقى الحلم لدى أحدهم بأن يحصل على مسكن أكبر من الذى أتاحته المحافظة له، والذى لا تتجاوز مساحته 22 مترا، فكل حلمه إضافة 40 مترا أخرى حتى يصبح إجمالى حجم الحلم فى حدود الـ60 مترا. هو ده كتير؟. ومرة أخرى يختفى السؤال فى الصدور.

وإذا كان الإخلاء القسرى مشكلة لدى أهل بولاق أو الدويقة أو وادى القمر فهو مأساة بالنسبة لأهالى النوبة وسيناء. وهذه قصة أخرى.

●●●

«عمركم شفتوا واحد غنى يتم إخلائه جبرا، ويخلع من بيته وينقل لمنطقة أخرى. الإخلاء للفقراء فقط. من سيهتم بقضية لا يتضرر منها سوى الفقراء؟ لا لجنة الخمسين ولا الستين ستضعنا فى الدستور». هذه همهمات الناس وهى تغادر من تلك القاعة الضيقة التى اتسعت لحكايات بوسع الوطن.

هو حق الأرض والسكن كتير على الناس؟ والسؤال للجنة الخمسين.

أميمة كمال كاتبة صحفية
التعليقات