هل قُضى الأمر وأعادت المداخلات والمؤامرات الخارجية والفشل الداخلى «الوطن العربى» إلى مجموعة من المستعمرات والدول التابعة، ثرواتها فى يد المهيمن الخارجى وأتباعه فى الداخل، وقرارها السياسى مرتهن للدول العظمى بعنوان الولايات المتحدة الأمريكية؟
فأما النفط والغاز فأمرهما معروف، فالمنشأ عربى لكن المستثمر والمستفيد ومحدد السعر والزبون الرئيس معروف، الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها بعض الغرب ومن ضمنه تركيا.
وبالتالى فإن الثروة تحكم أصحابها وتأتيهم بمن يتحكم بهم.
فأما الدول الفقيرة فتسترهنها الدول العظمى بالقروض و«المنح» التى تجعلها «تابعة» بغض النظر عن الرغبة ومحاولة حفظ الكرامة الوطنية.
تكفى زيارات القادة والمسئولين العرب إلى واشنطن ولقاءاتهم فيها مع رجال الإدارة، كبارهم والأصغر، لنعرف أن قرار هؤلاء ينبع من هناك وتصب منافعه وفوائده هناك.
قبل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، كان كثير من أسرار المباحثات ومطالب الإدارة الأمريكية يمكن أن تبقى فى خانة «أسرار الدولة».. أما مع هذا الرئيس الذى يستيقظ باكرا ويملأ الفضاء بتغريداته الفضائحية، فقد بات كل شيء معلوما. بل إن الرئيس الأمريكى لم يتورع عن عرض خريطة على التليفزيون بالمنتجات الأمريكية التى يرغب فى بيعها لضيفه العربى.
ومفهوم أن كرم أهل النفط العرب لا يشمل إخوتهم الفقراء.. وحتى إذا منحوا هذه الدولة أو تلك قرضا ميسرا فإن فوائده تظل «تجارية» لكى لا يتهم مانح القرض ببعثرة أمواله أو التصدق بها فى غير المجال المناسب.. هذا إذا ما وافقت واشنطن على منح القرض أصلا.
***
بصيغة أو بأخرى فإن القرار الأمريكى يتحكم ويحكم القادة العرب بأغلبيتهم المطلقة، ومن يخرج على هذا القرار يعاقب بنبذه والحجر عليه سياسيا واقتصاديا.
على هذا فمن المبالغة الحديث عن الدول العربية، أو معظمها، وكأنها صاحبة القرار فى شئونها، لا سيما المالية والاقتصادية، أو فى سياستها الخارجية بالذات.
تكفى نظرة إلى واقع جامعة الدول العربية التى فقدت موقعها ووظيفتها ودورها الجامع منذ زمن طويل، يمكن التأريخ له بيوم استطاعت «قطر» أن تجمع حولها من الأعضاء ما يكفى «لطرد» سوريا، وهى دولة مؤسسة لهذه الجامعة فى أواسط الأربعينيات.
كذلك فإن الثروة التى منت بها الطبيعة على بعض العرب من دون بعضهم الآخر قد أقامت فاصلا قاسيا بين أغنيائهم والفقراء، وسقطت الأخوة فى جب عميق.
وهكذا تلاقى أهل الثروة فى مجلس التعاون الخليجى، وحولوه من بعد إلى بديل من جامعة الدول العربية، واستقلوا بقرارهم عن أشقائهم الفقراء.. وفرح بهم العدو قبل الصديق.
ومن الطبيعى أن تحتفى واشنطن وسائر العواصم الغربية، وحتى موسكو وبكين بالإخوة الاغنياء وأن يسعى هؤلاء إلى توطيد العلاقات مع روسيا بوصفها المنتج الأكبر للغاز فى العالم، فضلا عن كونها بين الدول المنتجة للنفط، وكذلك بالصين بوصفها «الزبون الممتاز».
ولم تعترض واشنطن على علاقة أهل النفط والغاز من الملوك والأمراء العرب بهاتين الدولتين «المارقتين» بل هى شجعتها، طالما أن أى قرار «عربى» وكل قرار، لا بد أن يمر عبرها وبرضاها، من دون أن يخفف هذا التعامل من «حقوقها» على «أصدقائها» العرب فى دعم ميزان مدفوعاتها.
***
نخلص من هذا العرض إلى تقرير أن العرب لم يعودوا «أمة واحدة» بل إنهم قد انقسموا إلى معسكرات متعادية، بالسلاح، أو بالقطيعة.
فهذا هو العراق التائه عن مصيره، والتى تكاد دولته التى أنهكها صدام حسين ثم دمرها الاحتلال الأمريكى تغرق فى فقر مدقع، وتخرج التظاهرات الغاضبة فى البصرة، حيث يلتقى الرافدان ــ دجلة والفرات ــ لتطرد ممثلى السلطة المدموغة بالطائفية، ويشتد الصراع بين الأجنحة السياسية لتنظيمات استولدت ــ قيصريا ــ بعد الاحتلال الأمريكى، وجاءت قيادتها من المنافى القريبة (سوريا ولبنان ثم إيران..) ثم البعيدة (بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية) يتقدمها الشبق إلى السلطة والثروة، وتحكمها عقدة الغربة عن الوطن فتشهر طائفيتها هوية.
ولقد افترض مسعود البرازانى أن الفرصة التى فاتت أباه قد جاءته، الآن، على طبق من فضة الانقسام السياسى والمذهبى، فجنح إلى الانفصال بإقليمه عن العراق ليفاجأ بمقاومة السلطة، بكل أطرافها، والشعب العراقى بكل تلاوينه، ما أسقط «المشروع الانفصالى» وأخرجه من قيادة الإقليم ليتخلى عنها لبعض ذوى قرباه، مع زيادة الشرخ بين السليمانية وأربيل فى الشمال الكردى.. برغم التواطؤ التركى والدعم الإسرائيلى و«الحياد» الأمريكى.
فأما سوريا التى دمرتها الحرب فيها وعليها والممتدة منذ سبع سنوات دموية مرعبة تقترب الآن من خاتمة لهذه الحرب الوحشية التى شاركت فى إذكائها، كما فى أدامتها، دول عدة بينها بعض أغنى الدول العربية، وبينها دول أجنبية استغلت الفرصة لاحتلال مواطئ أقدام لها وتشجيع بعض الأقليات فيها على المطالبة بالاستقلال أو بالحكم الذاتى لا سيما حيث ترجح احتمالات وجود النفط والغاز (الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، فضلا عن تركيا التى لا تخفى مطامعها فى سوريا، وهى التى سبق لها أن استولت ــ عبر بيع موقف مجانى للحلفاء عبر الحرب العالمية ــ على كيليكيا وإسكندرون بأن تكون معهم وليس مع الألمان، كما فى الحرب العالمية الأولى).
ومفهوم أن هذا الوضع القلق فى سوريا يربك لبنان، ولا يريح العراق الباحث عن حليف عربى.. وإن كانت مصر قد تصرفت بوعى قومى وحرص على وحدة سوريا، ورفضت الانضمام إلى أى محور يعاديها بذريعة الاعتراض على ممارسات نظامها فى الداخل.
***
من الطبيعى، مع حالة الفرقة العربية الراهنة، أن تصبح واشنطن ــ لا القاهرة، مثلا ــ هى مرجعية القادة العرب، لا سيما جماعة النفط والغاز.
.. وإن تسقط فلسطين على الطريق إلى واشنطن (خصوصا وأنها تمر، بالضرورة أو بالرغبة، بتل أبيب.. فتنقل الولايات المتحدة سفارتها من تل أبيب إلى القدس المحتلة وتلحق بها بعض الدول التابعة.. ولا يرتفع أى صوت عربى (أقله من زوار واشنطن) بالاعتراض.
وبديهى، بالتالى، أن يسحب تعبير «الوطن العربى» من التداول، وأن تذوب ليبيا داخل حربها الأهلية ــ الدولية وتسهم فى هذه الحرب بعض الدول العربية، وأن تتباهى قطر بأنها تساند تركيا فى أزمتها الاقتصادية بـ 15 مليار دولار.
أى وطن عربى والعرب مقتتلون، تتآمر بعض دولهم على بعضها الآخر، لحساب الأجنبى.. ولو كان إسرائيليا!
أليس من حق العدو الإسرائيلى أن يغتنم الفرصة (بين غارتين على سوريا بذريعة قصف قواعد إيرانية) لإعلان دولة اليهود فى العالم، مقررا أن عاصمته القدس الشريف.. وقد دشن الرئيس الأمريكى هذه «العاصمة الجديدة»، قبل القرار الإسرائيلى بنقل سفارته إليها مشجعا بعض الدول الملحقة بواشنطن أن تحذو حذوه.
كيف لا تعيد المداخلات والمؤامرات الخارجية والفشل الداخلى والنزعة الانفصالية عند أهل الغاز والنفط هذا «الوطن العربى» إلى أرخبيل من مناطق النفوذ الأجنبى بحيث تكون ثرواته لغير أهله ولا يتبقى لهم إلا الصراع على حماية «دولهم» التى ما كانت لتكون دولا وحاجزا مع أهلهم الفقراء لولا ثرواتها التى جاءتهم بلا جهد.
وسبحان مقسم الأرزاق.