فى تطور فاجأ الجميع قامت الحكومة الصينية بتخفيض عملتها الوطنية اليوان فى 11 أغسطس الماضى بنحو 2%.
على الرغم من تواضع التخفيض إلا أن هذا القرار أحدث زلزالا ــ باعتبار الصين ثانى أكبر اقتصاد فى العالم ــ فى الأسواق المالية حول العالم، وانخفضت البورصة الصينية نحو 50% وكذلك معظم بورصات العالم، وامتد الانخفاض ليشمل جميع عملات الأسواق الناشئة التى استمرت فى انخفاضاتها حتى بلغت نسبا تتراوح بين 20 و50% منذ يونيو 2014.
لقد جاء انخفاض العملة الصينية مصاحبا لنشر بيانات تؤكد بدء تباطؤ الاقتصاد حيث انخفضت الصادرات 8.3% فى شهر يوليو، كما انخفضت 0.8% منذ بداية العام، كما نشرت الحكومة الصينية خلال شهر سبتمبر تقريرها الدورى عن «مؤشر مشتريات المديرين» (PMI) الذى يعبر عن مستوى النشاط الصناعى بمعدل 47 (إن مؤشر أقل من 50 يؤكد تباطؤ فى الاقتصاد).
حاولت الحكومة الصينية مقاومة الانخفاض فى البورصة بالتدخل بالشراء من خلال مؤسسات تابعة للدولة وأنفقت ــ كما نشر ــ نحو 200 مليار دولار، إلا أن هذه الجهود لم تنجح وواصلت البورصة انخفاضها ليصل الانخفاض إلى نحو 50%، بعدها توقفت الحكومة عن الشراء. ودعمت الحكومة العملة أيضا فأنفقت نحو 200 مليار دولار لتحد من انخفاضها.
وتشير التقديرات إلى أن حجم الأموال التى خرجت من الصين خلال الأسابيع الأولى من الأزمة يقدر بنحو 315 مليار دولار (طبقا لتقديرات بنك التسويات الدولية) مما دفع الحكومة الصينية لوضع ضوابط جديدة لتحويل النقد الأجنبى. وكذلك بادر البنك المركزى بتخفيض سعر الفائدة 5 مرات متتالية، وخفض الاحتياطى القانونى الذى تحتفظ به البنوك لدى البنك المركزى لخلق مزيد من السيولة وتحفيز النشاط.
كانت البداية فى عام 2008 ــ 2009 أثناء الأزمة المالية العالمية التى ضربت الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية نتيجة المضاربات والتجاوزات الصارخة فى أنظمتها المصرفية إلى حد تطلب تدخل الحكومات لمنع افلاس مؤسساتها المالية. أدى ذلك إلى دخول الاقتصاد العالمى فى حالة انكماشية فتدخلت الصين بواعز من مسئولياتها ــ كقوة اقتصادية كبرى تجاه الاقتصاد العالمى وأيضا للحفاظ على معدلاتها المرتفعة للنمو الاقتصاد ــ وبدأت برنامجا للتحفيز الكمى بلغ 600 مليار دولار للحفاظ على الطلب العالمى، كما لم تخفض عملتها كى تحافظ على صادراتها – كما كان متوقعا.
توسعت الصين فى بناء طاقات انتاجية ومشروعات عقارية وبنية أساسية تطلبت استيراد كميات هائلة من المواد الأولية مثل خام الحديد والنحاس والبترول من دول ناشئة أخرى مثل البرازيل واستراليا مما أدى إلى ارتفاع معدلات نمو هذه الدول. أدى هذا البرنامج الاستثمارى الهائل لزيادة الديون الصينية من 130% من حجم الناتج القومى عام 2008 إلى 280% حاليا.
ومن جهة أخرى أضافت الدول الناشئة التى كانت تصدر المواد الأولية للصين استثمارات استخراجية جديدة ممولة بقروض وسندات دولارية بأسعار فائدة منخفضة نتيجة السياسة النقدية الانفراجية التى يتبعها البنك الاحتياطى الفيدرالى فى الولايات المتحدة واعتقادها أن نمو الاقتصاد الصينى مستمر للأبد. لذا تضاعفت ديونها فى الخمس سنوات الأخيرة إلى 4.5 تريليون دولار وتركزت هذه المرة فى القطاع الخاص وليس لدى الحكومات.
يتابع العالم التطورات التى تحدث فى الصين وكان أول قرار هام فى هذا الشأن هو قيام البنك الاحتياطى الفيدرالى بتأجيل رفع أسعار الفائدة على الدولار والذى كان مخططا له منتصف سبتمبر، على الرغم من قيام البنك بتهيئة الأسواق منذ فترة لهذه الخطوة.
لقد كان قرار التأجيل مدفوعا بتقليل الضغوط على اقتصاديات الأسواق الناشئة التى تعانى من خروج رؤوس الأموال وانخفاض موارد النقد الأجنبى وارتفاع تكلفة الديون الخارجية. لو قام البنك الاحتياطى الفيدرالى برفع سعر الفائدة على الدولار كان سيوجه ضربة قاضية اضافية لمعاناة الدول الناشئة. كما كان مدفوعا أيضا بقلق المسئولين فى الولايات المتحدة من آثار تباطؤ الاقتصاد الصينى، حيث أنه يمثل قاطرة مهمة فى منظومة الاقتصاد العالمى الذى سيمر بمرحلة حرجة نتيجة قيام الصين بإعادة هيكلة نموذج اقتصادها ليكون أكثر اعتمادا على الطلب المحلى وأقل اعتمادا على سياسة الاستثمار والتصدير المتبعة حتى الآن.
تواجه الصينوالدول الناشئة التى اعتمدت بدرجة كبيرة على الصادرات تحديا كبيرا فى إعادة هيكلة اقتصادياتها. كما تتبع أوروبا سياسات نقدية انفراجية أسوة بما فعله البنك الاحتياطى الفيدرالى بالولايات المتحدة للخروج من الحالة الانكماشية التى تمر بها. إن كل ذلك لا يترك كثيرا من النقاط المضيئة فى الاقتصاد العالمى باستثناء الولايات المتحدة التى سيكون عليها لعب الدور الرئيسى فى زيادة جانب الطلب.
ماذا عن مصر وماذا يعنى كل ذلك لاقتصادنا؟
1. لا تتأثر مصر مثل باقى الدول الناشئة التى تصدر المواد الأولية للصين. على العكس تستفيد من انخفاض أسعار المدخلات الصناعية والسلع الرأسمالية. وان كانت ستتأثر مصر لتباطؤ الاقتصاد العالمى وانخفاض حركة التجارة العالمية.
2. إن استمرار انخفاض أسعار البترول سيؤثر على حجم التدفقات المالية فى مصر من دول الخليج العربى.
3. ستقلل الصين من استثماراتها فى السندات الحكومية الأمريكية ومن الممكن أن تقوم بتصفية بعض موجوداتها، الأمر الذى سيؤدى إلى ارتفاع أسعار الفائدة على السندات الحكومية الأمريكية.
4. تتأثر جميع الدول الناشئة، بما فيها مصر، من تخفيض صناديق الاستثمار العالمية من استثماراتها فى الأسواق الناشئة والعودة إلى أسواق أكثر أمانا، تحديدا أسواق الولايات المتحدة. وهناك تخوف من الخروج الجماعى للصناديق المتخصصة فى سندات الأسواق الناشئة الذى سيضع ضغوطا إضافية على هذه الدول.
5. هناك تخوف أن تقوم الصين بتصدير الانكماش لباقى اقتصاديات العالم التى من المحتمل أن تحاول جميعها الحفاظ على أسواقها بتخفيض عملاتها لتنشيط الصادرات.
فى ضوء ما سبق ماذا يمكن لصانع السياسة المصرية أن يفعل؟
1. فى ظل وجود تباطؤ متوقع فى الاقتصاد العالمى ومنافسة شديدة لتخفيض قيمه العملات للحفاظ على الصادرات، يواجه صانع السياسة فى مصر موقفا ليس سهلا حيث سيكون مدفوعا لإتباع سياسات مالية ونقدية انفراجية لمحاربة الانكماش، فهو من ناحية يهدف للحفاظ على تنافسية المنتجات المصرية وإدارة الميزان التجارى بكفاءة، مما يصعب عليه الحفاظ على قيمة الجنيه الحالية، كما يهدف أيضا إلى الحد من التضخم والسيطرة على الأسعار. إن التخفيض التدريجى للجنيه قد يكون هو الحل فى هذه المسألة الشائكة.
2. فى ظل وجود عجز فى الموازنة يصل إلى نحو 12% من حجم الناتج القومى، سيكون من الصعب اتباع سياسة مالية أكثر انفراجا، إلا أنه يمكن للدولة زيادة مواردها عن طريق تحسين كفاءة تحصيل الضرائب وتوسيع مظلة الضرائب لتشمل القطاعات التى خارجها. وأود أن أنوه هنا أن زيادة عبء الضرائب على الممولين الحاليين ــ وهو البديل الأسهل ــ يؤدى إلى نتائج عكسية.
3. يمكن أن تنتهز مصر انخفاض أسعار البترول نتيجة الظروف الجديدة وتحاول أن تسحب دعم الطاقة تدريجيا لتحسين عجز الموازنة أو توجيه تلك الموارد لبنود انفاق أخرى.
4. على مصر أن تحسن بيئة الاستثمار لتكون جاذبة عن طريق تنقية القوانين المعوقة.
إن التحديات أمام مصر كبيرة فى الفترة القادمة وتزداد صعوبتها نتيجة الوضع المتوقع للاقتصاد العالمى ونقص موارد دول الخليج العربى التى تعتبر أحد المصادر الرئيسية للاستثمارات الخارجية لمصر. يتحتم علينا فى المرحلة الراهنة وضع السياسات الجاذبة للاستثمار ويقع على عاتق الحكومة تفعيل هذه السياسات بدرجة عالية من الكفاءة.