عن الأنفاق والجدار والمسكوت عليه من الأسرار - فهمي هويدي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:57 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن الأنفاق والجدار والمسكوت عليه من الأسرار

نشر فى : الثلاثاء 12 يناير 2010 - 9:40 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 12 يناير 2010 - 9:40 ص

 لا بأس من وقفة مع بعض مقولات «المصريين الجدد»، الذين استنفرهم ما كتبته عنهم فى الأسبوع الماضى، فاستبسلوا فى تلبيس الحق بالباطل، ولم تسعفهم أوراق التوت التى استخدموها لستر ما انكشف من عورات.

ـ1ـ
كنت قد تحدثت عن أولئك النفر من الناس الذين أفرزتهم أجواء الانحسار والانكسار التى سادت فى السنوات الأخيرة، فتشوه إدراكهم حتى أصبحوا كارهين لمقومات انتمائنا وتطلعات أحلامنا. ومن ثم تبنوا منظومة قيم مناقضة لما تعارفت عليه الجماعة الوطنية المصرية وبلورة خطابها فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى، لم أخف أن ما كتبته كان متأثرا بأصداء الهجوم على الانتماء العربى بسبب أزمة مباراة مصر والجزائر، والتجريح الذى أصاب الملف الفلسطينى، والمقاومة بشكل عام، الأمر الذى سوغ الاشتراك فى حصار غزة ثم السعى لإحكام ذلك الحصار من خلال إقامة الجدار الفولاذى العازل. ولأن سياق المقال كان يتحدث عن أحداث وأجواء العام المنصرم، فإننى تطرقت إلى منظومة القيم السلبية الأخرى التى تجلت فى خطاب اولئك «الجدد»، متصورا أن ذلك يسلط أضواء إضافية من زاوية مغايرة على صورة العام وحصيلته.

بعض الذين على رأسهم «بطحة» تطوعوا بالرد. ولأن موضوع الجدار الفولاذى هو حديث الساعة فى مصر على الأقل، فإنهم اتخذوا منه قاعدة ليس فقط لهدم الفكرة التى عرضتها، ولكن أيضا لهدم من قال بها أو أيدها. ولجأوا فى ذلك إلى التخويف والتكفير تارة، وإلى الكذب والتدليس تارة أخرى، وإلى تغطية ذلك بالعناوين الكبيرة، مثل السيادة والكرامة الوطنية والمصالح العليا والأمن القومى، تارة ثالثة، ولأنهم لم يلجأوا إلى الإسفاف والبذاءات التى يستخدمها بعض البلطجية الذين انتسبوا إلى مهنة الصحافة، وإنما استخدموا خفة اليد التى يلجأ إليها النشالون الأذكياء والظرفاء، فإن ذلك شجعنى على الرد على أطروحاتهم وأخذها على محمل الجد، تقديرا لأدبهم وظرفهم.

ـ2ـ

قرأت لأحدهم كلاما اعتبره دفاعا عن مصر، فى مدخل لا يخلو من تدليس، حيث افترض أن مصر هى السياسات الراهنة وأن الاختلاف حول هذه السياسات هو تجريح لمصر ونيل من مقامها. ولأنه أحد الوكلاء «الحصريين» لمصر الراهنة، فقد وجد أن «الواجب» يفرض عليه أن ينبرى للدفاع عنها، وفى نص المرافعة التى نشرت يوم السبت الماضى 9/1 ركز صاحبنا على النقاط التالية:

< إن مشكلة مصر دائما لم تكن مع أعدائها «التى كانت قادرة على التعامل معهم»، وإنما كانت مع أصدقائها وأشقائها (العرب؟)، الذين ظل التعامل معهم ملتبسا دائما وقائما على «المناورة والخداع» (!).

< إن الرئيس عبدالناصر أقدم بعد الغارة الإسرائيلية على غزة فى عام 1955 على اعتقال سياسيين ومفكرين ومناضلين «حتى لا يستدرج أى منهم مصر إلى معركة لم تخترها ولم تحدد هى مكانها وتوقيتها» فى إشارة تفوح منها رائحة إما التلويح أو التحريض أو التخويف من إمكانية تكرار «السابقة» مع الناقدين الحاليين.

< النقطة الثالثة والأهم فى المرافعة إنها لجأت إلى الطعن فى ولاء وانتماء الناقدين. فوصفتهم تارة بأنهم لا يجدون بأسا فى التفريط بالمصالح المصرية، وبأن «أيديولوجيات مختلفة دفعتهم للتخلى عن مصر ومصالحها» تارة أخرى. وفى موضع ثالث ذكر أنهم «يضعون مصر فى مؤخرة اهتماماتهم، ويضعون كل ما عداها فى المقدمة، من طهران إلى غزة، وهى أوصاف تخرج الناقدين لفكرة الجدار وشككوا فى مراميه من الملة الوطنية. عبر عن الفكرة ذاتها فى برنامج تليفزيونى أحد الجهابذة الذين يستضافون كثيرا هذه الأيام، ويقدم بحسبانه من الخبراء الأمنيين، إذ سمعته يقول إن الذين انتقدوا الجدار «ليسوا مصريين» الأمر الذى لا يشكك فقط فى وطنيتهم، ولكنه يعد أيضا من قبيل التكفير السياسى والإرهاب الفكرى.

< بعد التبكيت والتخويف والتخوين أوردت المرافعة سبعة انتقادات لمشروع الجدار، كان الرد عليها طريفا للغاية، ذلك أن الرد لم يتجاوز حدود النفى، دون تقديم أى حجة مقابلة أو معلومة تؤيد وجهة النظر المضادة. ففى مواجهة انتقادات رأت أن الجدار بمثابة عقاب لحماس لرفضها الاستجابة للطلبات المصرية، أو أنه يعبر عن التجاوب مع السياسات الإسرائيلية، أو أنه ضمان للأمن الإسرائيلى أو تمهيد لضربة إسرائيلية جديدة، أو أنه جزء من صفقة توريث السلطة فى مصر أو. أو..إلخ، فإن هذه الادعاءات قوبلت بمجرد الاستنكار الذى لا يقنع أحدا، ويفتح الباب لاحتمال تأييد الادعاء وليس استبعاده.

ـ3ـ

الشىء المحدد الوحيد الذى جرى الإلحاح عليه أكثر من مرة وهو أن الأنفاق مثلت اختراقا للحدود المصرية واعتداء على سيادة البلد، وأنها استخدمت فى تهريب السلاح وأدوات العنف، وتهريب وتدريب الإرهابيين، وإن إقامة الجدار استهدفت تأمين الحدود المصرية من التهديدات القادمة من غزة. من ثم فهى مجرد إنشاءات حدودية وتحصينات دفاعية وليست هجومية ارتأتها مصر استنادها إلى حقها المشروع فى الدفاع عن سيادتها وأمنها القومى.

هذا الكلام بعد نموذجا للتدليس وابتذالا للمعانى الكبيرة المتمثلة فى السيادة والأمن القومى والمصالح العليا. ذلك أن الأنفاق لم تظهر كقضية إلا بعد فرض الحصار على غزة وارتفاع نبرة شكوى الإسرائيليين وانتقادهم، لسبب جوهرى هو أنها كانت أحد أسلحة المقاومة التى ابتدعها الفلسطينيون وحفروها باظافرهم لتحدى الحصار وإفشاله. لذلك فإنها كانت مشكلة لإسرائيل وليس لمصر.

الكلام عن استخدام الأنفاق فى تهريب السلاح وأدوات العنف أو تهريب الإرهابيين كذب وافتراء لا أساس له من الصحة. هذا هو رأى الدكتور صلاح البردويل رئيس الدائرة الإعلامية فى حركة حماس الذى قال إن ما بين 30 و35٪ من الاحتياجات المعيشية للقطاع ظلت تأتى عبر الأنفاق. فمن خلالها تدخل إلى القطاع بعض مواد البناء التى تمنعها إسرائيل مثل الزجاج والأخشاب والألومنيوم. كما تتوفر الأقمشة والمواد البلاستيكية ومواد التنظيف، وكل مستلزمات المدارس من كتب وكراريس وأدوات مدرسية، كما أن كل ما يدخل القطاع من بنزين وسولار يأتى من مصر عبر الأنفاق. ذلك غير قطع غيار السيارات والمواد الغذائية التى تشمل المعلبات والفواكه وحليب الأطفال. (للعلم: قيمة البضائع التى تدخل سنويا عبر الانفاق تقدر بمليار دولار تنعش اسواق رفح والعريش).

ان سد الأنفاق يعنى خنق القطاع وحرمانه من كل ما سبق. اذ ستتوقف الدراسة وحركة ترميم المبانى وستصاب كل سيارات القطاع بالشلل، ولن يجد الناس احتياجاتهم من الألبسة والأحذية أو حليب الأطفال... إلخ. وهذا هو «الإرهاب» الذى يتحدث البعض عن ضرورة إيقافه، وبصورونه بحسبانه مصدرا لتهديد الأمن القومى المصرى.

هل هذا يبرر اختراق الحدود وانتهاك السيادة؟ قطعا لا، ولكنه من الناحية الأخلاقية يعد من الضرورات التى تبيح المحظورات. والتعامل الأمثل مع هذه الضرورة يكون برفع الحصار لتوفير احتياجات المحاصرين من خلال معبر رفح، الذى ينبغى أن يعامل كأى معبر آخر يخضع لإشراف مصر ورقابتها، فى السلوم أو نويبع.

ولا محل للاحتجاج هنا باتفاقات لم تكن مصر طرفا فيها، كما لا ينبغى ألا يستخدم الحصار وسيلة للى ذراع حماس وإخضاعها لرئاسة السلطة فى رام الله، لأن الشعب الفلسطينى فى القطاع لا ينبغى أن يرتهن لكى يحل ذلك الخلاف المعقد بين أنصار التسوية والتفريط وبين دعاة الممانعة والمقاومة. وفى القانون الدولى الإنسانى واتفاقية جنيف الرابعة التى تحظر تجويع المدنيين، سند قوى للحل الذى ندعو اليه، يعلو فوق أى اتفاق آخر، وهو مما يدعم موقف مصر إذا أرادت أن تحل مشكلة الأنفاق من جذورها، بحيث تسمح بتوفير احتياجات الناس بصورة إنسانية عادية ومنتظمة.

ـ4ـ

إن المرء ليستغرب أن تبتذل فكرة أمن مصر القومى، بحث تعد الأنفاق الفلسطينية تهديدا لذلك الأمن، فى حين لا تعد كذلك 200 رأس ذرية تخزنها إسرائيل. كما يستغرب ذلك الاحتجاج ضد الأنفاق بالسيادة واختراق الحدود المصرية، بينما يتم السكوت على الاعتداء شبه المنظم على السيادة المصرية من جانب إسرائيل التى لا تتوقف غاراتها على الحدود لتدمير الأنفاق. وهى غارات تمثل أيضا انتهاكا لاتفاقية السلام التى نصت على اعتبار منطقة الحدود المشتركة منزوعة السلاح، فى حين حولها الإسرائيليون إلى مسرح للعمليات العسكرية.

إن «وطنية» المصريين الجدد الذين تبلغ بهم الجرأة حد إعطائنا درسا فى الغيرة على مصر والحدب على مصالحها العليا، لا ترى فى طموحات إسرائيل خطرا على أمن البلد، ولا فى جرائمها ما يستحق التنويه فضلا عن الاستنكار، لكنها لا ترى التهديد أو الخطر إلا فى توفير كراريس المدارس وعلب الحليب وغيرها من الاحتياجات الأساسية إلى المحاصرين فى غزة.

إن الصمت المريب عن كل اعتداءات وانتهاكات إسرائيل للحدود المصرية لا يعادله إلا التجاهل التام لقصة الجدار والمعلومات المثيرة التى تتناثر حوله، ومن المفارقات أن هذا الموضوع الذى يثير الآن صخبا وجدلا شديدين فى مصر، ظل سرا محاطا بالكتمان لعدة أشهر، إلى أن فضحته صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية، حين تحدثت عن الأعمال الجارية على الحدود، وعن مواصفات ألواح الصلب التى تصنع فى أمريكا لكى تدفن فى الأرض على عمق ثلاثين مترا، وتشكل الحاجز الفولاذى المطلوب. وعلى أهمية تلك المعلومات إلا أنها لم تشر إلى التفاصيل التى تسربت تباعا فى وقت لاحق. من تلك المعلومات أن إقامة الجدار قرار أمريكى -إسرائيلى جاء تنفيذا لاتفاق كان آخر ما وقعته فى نهاية العام الماضى وزيرتا الخارجية فى الولايات المتحدة وإسرائيل (كونداليزا رايس وتسيبى ليفنى). وكان إنجاز ذلك الاتفاق أحد الشروط التى أملتها إسرائيل على واشنطن قبل انسحابها من غزة، فيما وصف بأنه «تنظيف للطاولة» قبل استلام الإدارة الأمريكية الجديدة، وقد أغضب ذلك مصر وقتذاك، التى احتجت على اتفاق الدولتين على إقامة السور الفولاذى على أراضيها، الأمر الذى يعد اعتداء صارخا على سيادتها. ولكن «التفاهمات» اللاحقة امتصت الغضب وأدت إلى تنفيذ الاتفاق كما أرادته اسرائيل واتفقت عليه الدولتان.

من المعلومات التى تسربت أيضا أن مركز الأبحاث الهندسية والتنموية التابع للجيش الأمريكى هو الذى أعد جميع المواصفات الفنية للمشروع، وقد تعاقد على تنفيذها مع شركة فى ولاية مسيسبى، تخصصت فى صناعة الألواح الفولاذية العازلة، سبق لها أن نفذت مشروعات مماثلة على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك.

ذلك كله مسكوت عليه وتجرى تغطيته بالحيل البلاغية والشعارات الرنانة التى تردد الهتاف لسيادة مصر ومصالحها العليا وأمنها القومى، فى حين تهدد الناقدين وتطعن فى وطنيتهم ومصريتهم.

لقد عددت فيما كتبت قبلا ما تصورته مواصفات للمصريين الجدد وموقفهم إزاء القيم السياسية للجماعة الوطنية فى مصر، لكن النموذج الذى بين ايدينا سلط الضوء على موقفهم من القيم الاخلاقية الذى بات يحتاج إلى دراسة مستقلة، لأن الجرأه على الاحتيال والتدليس التى تكشفت ليست فى مقدور كل أحد.

فهمي هويدي فهمى هويدى كاتب صحفى متخصص فى شؤون وقضايا العالم العربى، يكتب عمودًا يوميًا ومقالاً اسبوعياً ينشر بالتزامن فى مصر وصحف سبع دول عربية اخرى. صدر له 17 كتابا عن مصر وقضايا العالم الاسلامى. تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1961 ويعمل بالصحافة منذ عام 1958.