السياسات الناجحة تعالج الأسباب لا الأعراض - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 10:00 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السياسات الناجحة تعالج الأسباب لا الأعراض

نشر فى : الإثنين 12 يناير 2015 - 8:10 ص | آخر تحديث : الإثنين 12 يناير 2015 - 8:10 ص

تناولنا فى المقالات السابقة ما تعرض له مسار التنمية خلال الستينيات من مشاكل اقتضت إجراء تعديلات فى السياسات من أجل استعادة القدرة على تحقيق الأهداف المختارة. وخلال تلك السنوات شهدت الساحة العالمية تطورات كان لها وقع منبأين على أقاليمه المختلفة. فقد نجحت أوروبا بشقيها فى استعادة قدراتها التى حطمتها الحرب العالمية الثانية، وبنى كل منهما اقتصاداته على أسس جديدة.

واحتدمت الحرب الباردة، وما ترتب عليها من محاولات استقطاب الدول النامية أدت إلى تجمعها فى حركة عدم الانحياز لحماية استقلال كافحت طويلا لاسترداده، وعقدت العزم على تعزيزه باتباع مناهج تنموية تحررية، وهو ما أقامت ثورة يوليو خطتها التنموية على أساسه.

وقد تمكنت أوروبا الغربية من استكمال بناء سوقها المشتركة فى 1967، بتشجيع من الولايات المتحدة التى أرادت التعامل مع سوق أكبر بتكلفة أقل، وخلال ذلك تحررت من القيود على تبادل عملاتها، وتخلصت من قبضة الاقتصاد الأمريكى الذى توسع فى ظل تقديم العون لها فى السنوات التالية للحرب. وساعدت القدرة على تعزيز التبادل البينى والرغبة فى تجنب العودة للاقتتال على المستعمرات على فتح الطريق أمام دول العالم الثالث لتحقيق استقلالها السياسى والسعى لدعمه بتنمية تقوم على الاعتماد الجماعى على النفس.

وبدأ العالم يعانى من تخمة دولارية بعد أن كان الدولار يوصف بأنه «العملة الصعبة»، فاتجه صندوق النقد الدولى فى 1968 إلى إيجاد بديل هو «وحدات حقوق السحب الخاصة» المبنية على سلة عملات دول ذات موقع متقدم فى التبادل التجارى الدولى. وبدأت موجة هروب من الدولار هبطت باحتياطات أمريكا من الذهب من 55% إلى 22% من إجمالى احتياطاتها فقرر نيكسون فى 1971 إنهاء التزام أمريكا بتحويل دولاراتها إلى ذهب لمن يريد وفقا لاتفاقية بريتون وودز. ثم خفض سعر الدولار ليتمشى مع التدنى فى قيمته. وهكذا تدنت أسعار صرف العملات المرتبطة به بقرار أمريكى، وعمدت الجماعة الأوروبية إلى النجاة معا من هذه الورطة. وأضر هذا ضررا بليغا بالدول الضعيفة ومنها مصر.

•••

وانعكست هذه التغيرات سلبا على أسعار المواد الأولية والسلع الصناعية. ففى يناير 1971 قررت الأوبك فى مؤتمر طهران رفع سعر النفط 35 سنتا للبرميل فارتفع سعر النفط السعودى من 1.30 إلى 1.65 دولار للبرميل فى 1972، ثم بمعدل 5 سنت سنويا، إلا أن تلاحق الأحداث رفعه إلى 1.90 ثم 2.70 فى السنتين التاليين، إلى أن جاءت حرب أكتوبر لتقفز به إلى 9.76 فى 1974. وبدأت الولايات المتحدة تسعى بسبل ملتوية للحد من تنامى قدرات منافسيها بالعمل على رفع تكاليف إنتاجها عن طريق تشجيع رفع أسعار المواد الأولية والغذائية مطمئنة إلى وفرتها داخليا.

فإضافة لمباركتها قفزة سعر النفط قامت فى 1973 بمضاعفة سعر القمح من 1.90 دولار للبوشل (مساوٍ لسعر برميل النفط) إلى 3.81 فى 1973 ثم 4.90 فى 1974 أى ما يقارب نصف قفزة سعر النفط، وملأت الدنيا ضجيجا بتحميل النفط مسئولية موجة التضخم التى عانى منها العالم طيلة السبعينيات. بينما استفادت من انخفاض أسعار صادراتها الصناعية نتيجة تدهور سعر الدولار، فتعرضت اقتصادات الدول الصناعية إلى الركود، وتراجع طلبها على المواد الأولية من الدول النامية، فحرمت هذه من الكسب من ارتفاع أسعارها العالمية، وعجزت عن تمويل تصنيع تستفيد من تصدير منتجاته لسد جانب من العجز الخارجى المتفاقم ودعم الموارد العامة بحصيلة ضرائب على الدخول المتولدة فيه.

وبحجة العمل على امتصاص التضخم رُفعت أسعار الفائدة على القروض بينما كان الركود يستدعى خفضها. وهكذا وقعت الدول النامية فى مصيدة مديونية متصاعدة التكلفة، جعلت عقد الثمانينيات يعتبر عقدا ضائعا بالنسبة لتنميتها. وتصاعدت المناداة بدعوة رأس المال الأجنبى وخاصة لعابرات القوميات لتلتهم الفرص الواعدة فى الدول النامية وتوجه نموها إلى مزيد من التبعية لا التخلص منها. وكان هذا موضوع دراسة لمؤتمر للاقتصاديين المصريين، أخطرت السيد ممدوح سالم فى 17/3/1976 بعزمى على تقديمها خلال مقابلتى عارضا على وزارة التخطيط عند إعادة تشكيله الوزارة.

•••

وكانت مصر تعانى، بالإضافة إلى أعباء الحرب ومتطلبات التعمير وتعويض الطاقات الإنتاجية المحرومة من الإحلال، من قضية الدعم. فطلب رئيس الوزراء فى أول اجتماع لمجلس الوزراء الجديد من الوزراء تقديم مقترحات للتخلص من دعم الدقيق الفاخر كإحدى أدوات سد العجز المتفاقم فى الميزانية العامة. وكان الدعم قد تقرر بناء على توصية من جهاز الأسعار بدلا من رفع الأجور اعتقادا بأن ما حدث فى 1973 طارئ سيزول، وهو ما ثبت خطأه. وعندما طلبت من الجهاز دراسة الواقع السائد جاءت متأثرة بنفس الأسلوب الفكرى.

فعرضت على المجلس دراسة مؤداها أن الدعم خطأ لأنه لا يعالج أساس المشكلة وهو عدم مواكبة معدلات الأجور لأوضاع السوق وفقا لما أسميه العدالة الاقتصادية، ولا يجوز معالجة الخطأ بخطأ آخر. فالمسئولية القومية التى يتحملها المجلس تقتضى إسناد قراراته إلى تحقيق الموازنات الكلية الأساسية: بين الريف المنتج والحضر المستهلك، وبين شرائح الدخل الدنيا والعليا، وبين الأنشطة القائمة وتلك المطلوب تعزيز التنمية بها، وبين الداخل والخارج أخذا فى الاعتبار التطورات العالمية سالفة الذكر. وأضفت أن وجود صنفين لنفس السلعة ينشئ سوقا سوداء، حيث يتسرب الدقيق المدعوم إلى من يحوله إلى فاخر وكسب الفرق.

ثم جاءت ورقة أكتوبر لتعلن انفتاحا على عالم مشتعل فكانت انفتاحا لأبواب جهنم كان الحذر يقتضى تجنبه بغض النظر عن الموقف المبدئى منها. وفى مقابلة تعارف أشار السفير الأمريكى أيلتس إلى عدم تحقيقه جذبا للمستثمرين، وعندما ذكرت أن ما أتى لا يساعد على الدخول فى مجالات للتصدير قلت له إن رأيه أن الوقت لم يحن لهذا يعنى رغبة فى جنى أرباح على حساب المستهلك المصرى أفضل مما هو متاح فى أماكن أخرى. ونشرت فى معهد التخطيط القومى ورقة علن «خرافة الاستعاضة عن الواردات»، ثم أخرى عن خطأ تخفيض سعر الصرف على نحو ما فعلت أمريكا لتشغيل طاقات قائمة معطلة فى حين أن مشكلتنا هى حاجتنا لنقد أجنبى نستورد به طاقات متطورة.

وحين أتى مندوب صندوق النقد الدولى جنتر مطالبا بإلغاء الدعم لتقليص عجز الموازنة العامة وتخفيض سعر الصرف، بينت له أسباب اضطراب الاقتصاد العالمى، وطالبته بحكم دولية الصندوق أن يصلح الاقتصاد الأمريكى والعالمى لأجد لمصر مكانا مناسبا فيه. وحينما تولى د.القيسونى رئاسة المجموعة الاقتصادية وأقنع السادات بتلبية وصفة الصندوق، قدمت للمجموعة دراسة تبين أن هذه الإجراءات تؤدى لنقص المتاح من دخل الفقراء للإنفاق على سلع أخرى منتجة محليا، وهو ما يؤدى إلى انكماش مع رفع الأسعار برفع التعريفة الجمركية وخفض سعر الصرف. وفرض حظر على بعثات الصندوق عن مقابلتى.

واقترحت اتباع سياسة ادخارية تقوم على تحويل الحوافز إلى أسهم فى حدود 25% من رأس المال تمكن العمال من المشاركة الفعالة فى مجالس إدارة شركات القطاع العام، بدءا بقطاع المقاولات لإخراجه من سيطرة مستشار السادات وصهره عثمان أحمد عثمان، وطرح 24% للاكتتاب للمصريين لساهموا فى تطوير أدائه لصالحهم. وتستبقى الدولة 51% وتحصل على تمويل ضعف ما تملكه يساعد على مضاعفة جهود التنمية. واقترحت تهيئة مدن صحراوية يديرها مغتربون يساهمون بأموال تستخدم حصيلتها فى توفير احتياجات النقد الأجنبى لها ولاستثمارات أخرى، ويساهم هذا فى تخفيف التكدس فى الوادى.

كما طالبت بالتخلى عن أسلوب المناطق الحرة التجارية كبورسعيد تغذى الاستهلاك، ودعوة مستثمرين إلى كونسورتيوم من البنوك الأجنبية لتشارك فى التمويل مع الحرص على تجنيب المشروعات المحلية منافسة غير عادلة، وهو ما يوفر مزيدا من النقد الأجنبى. وقام د.إسماعيل صبرى بتوجيه معهد التخطيط القومى لإعداد دراسة عن حجم الخسائر التى سببتها إسرائيل بحروبها المتتالية ليطالب بها المفاوض المصرى، فتساعدنا على استرداد حقوق تعزز تنمية كريمة للاقتصاد المصرى. وحذرت من أن تتخذ وصفة الصندوق كورقة ضغط للتخلى عن الاحتفاظ بقدرة عسكرية نضمن سلاما مشرفا. واشترطت لتقديم خطة أشركت فى إعدادها جميع الجهات إلى نادى باريس للمانحين فى 15 مايو 1977، فتقرر إعفائى فى 21 إبريل لاستكمال شروط السمع والطاعة.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات