فوائد محدودى الدخل - جلال أمين - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 7:18 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فوائد محدودى الدخل

نشر فى : الثلاثاء 12 مايو 2015 - 8:50 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 12 مايو 2015 - 8:50 ص

ما أكثر ما حضرت من ندوات ومؤتمرات، وما سمعت من محاضرات عن محدودى الدخل، وضرورة النهوض بهم، وعن مكافحة الفقر وتحسين توزيع الدخل، منذ أن بدأت دراسة اقتصاديات العالم الثالث أو التنمية. رأيت هذا الاهتمام الشديد بأحوال الفقراء من مصريين وأجانب، من جهات رسمية وجمعيات أهلية، ومن هيئات دولية تقدم المنح وتوظف مستشارين لدراسة أحوال الفقراء بالذات، ولتقديم الحلول الكفيلة بعلاج مشكلاتهم.

ليس فى هذا كله غضاضة لولا أمران: الأول أن كل هذا النشاط المبذول لصالح محدودى الدخل لا يبدو أنه أسفر عن نتائج مبهرة. يشهد على ذلك ما نراه فى مصر وخارجها على السواء. فالتحسن فى أحوال الفقراء، إذا وجد على الإطلاق، بطىء للغاية. وها هو اقتصادى فرنسى شهير ينشر كتابا ضخما منذ شهور قليلة، أثبت فيه أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء، فى العالم كله تقريبا، استمرت فى الزيادة طوال القرنين الماضيين على الأقل، فيما عدا فترة قصيرة واحدة فى منتصف القرن العشرين، اتسمت بظروف تاريخية استثنائية.

أما الأمر الثانى المثير، فهو ضخامة حجم الأموال التى تنفق لبحث هذه المشكلة، وتذهب إلى أشخاص ليسوا قطعا من بين محدودى الدخل. لقد حضرت مثلا بعض جلسات عقدت كجزء من مشروع كبير لبحث مشكلة الفقر فى مصر وطرق علاجها، يمتد لبضع سنوات، وخصصت له هيئة أمريكية كبيرة ومشهورة بجهودها فى بلاد العالم الثالث، عدة ملايين من الدولارات، واستُقدم من أجله أساتذة من الخارج، تخصصوا أيضا فى هذه الموضوعات الإنسانية. واستمعت فى بعض هذه الجلسات، قبل أن يصيبنى السأم الشديد، إلى مناقشات مطولة عن التعريف الأمثل للفقر، كخطوة أولى ضرورية قبل التطرق إلى حساب عدد الفقراء فى مصر، وتحديد أماكنهم، ونوع الأنشطة التى يقومون بها.

عندما تكرر عقد الجلسات لمجرد تعريف الفقر، مع تشعب النقاش لكثرة التعريفات المقترحة، وصعوبة تفضيل أحدها على الأخرى، خطرت بذهنى صور بعض من أعرفهم من فقراء المصريين، ممن لا يثور فى الذهن أى شك فى أنهم يستحقون وصف «الفقراء»، وتساءلت عما يمكن أن يخطر ببالهم لو شرح لهم أحد ما يجرى فى هذه الجلسات، وكذلك عما يمكن أن يكون أن يحدث لهم فى الفترة التى يستمر خلالها هذا البحث، من اشتد البؤس بهم، وما قد ينجبونه خلال هذه الفترة من أطفال جدد يزيدون المشكلة تعقيدا.

•••

فى أثناء ذلك كنت أرى النعيم الذى يحاط به هؤلاء المشتركون فى الجلسات وحلقات البحث. الاجتماعات تعقد عادة فى فنادق عظيمة مكيفة الهواء باستمرار، وتقدم بين الجلسات وجبات فاخرة، مما يعود بالنفع ليس فقط على الباحثين ولكن أيضا على أصحاب هذه الفنادق، وينتهى الأمر كله بإصدار كتب مطبوعة على ورق مصقول، ومحلاة بالصور التى التقطت للفقراء وهم يقومون بأنشطة مختلفة، مما يسمح للهيئة التى مولت المشروع بإثبات جدارتها بالاستمرار فى نشاطها، ومن ثم الحصول على اعتمادات جديدة من الخزانة العامة لدولة غنية، أو من إحدى الهيئات الدولية.

هذا هو ما أقصده من «فوائد محدودى الدخل»، إذ تتضح من كل ذلك الخدمة المهمة التى يؤديها الفقراء ومحدودو الدخل لكثيرين ممن ينتمون إلى طبقات ميسورة، ولا يمكن بأى حال وصفهم بأنهم محدودو الدخل، عن طريق ما يطلب منهم من بحوث ودراسات عن الفقر والفقراء. ولكن الأمر لا يقتصر بالطبع على المؤتمرات والبحوث، إذ إن هناك مؤسسات بأكملها، أُنشئت باسم العمل لمصلحة محدودى الدخل، من صناديق اجتماعية، إلى وزارات للتضامن الاجتماعى، إلى شبكات الحماية للفقراء، يشتغل فيها أعداد لا بأس بها من صفوة القوم، ويجدون فيها وظائف مجزية لأولادهم وبناتهم بعد تخرجهم، دون أى عائد ملموس على من أنشئت هذه المؤسسات باسمهم. كم عرفت فى حياتى من زملاء، أبناء وبنات الزملاء، الذين يشغلون وظائف فى مثل هذه المؤسسات، وهم كثيرو السفر والتنقل من بلد لبلد، ويتمتعون دائما خلال ذلك بكل وسائل الراحة، مع أنى نادرا ما أرى فى صحبة أحد منهم شخصا ينتمى إلى فئة محدودى الدخل، بل ونادرا ما يصدر منهم ما يدل على أنهم يلاحظون ما فى هذا كله من مفارقات.

•••

لابد أن نعترف بأن الحال لم يكن دائما كذلك، نعم، الانقسام الطبقى ظاهرة قديمة جدا، وتوزيع الدخل نادرا ما كان توزيعا عادلا، ولن نلاحظ أن الكلام عن الفقراء ومحدودى الدخل، حتى وقت قريب، لم يكن يقترن بهذه الدرجة العالية من النفاق (أو من خداع النفس) التى يقترن بها اليوم.

كانت الأفكار السائدة عن الفقر والفقراء فى بلادنا حتى منتصف القرن العشرين تدور حول النظر إلى الفقراء أو محدودى الدخل وكأنهم أقرب إلى أن يكونوا «جنسا آخر» من الناس، وأن ما هم فيه من بؤس لا يعود إلى الظلم الاجتماعى بقدر ما يعود إلى صفات متأصلة فيهم، توارثوها أبا عن جد. لم تكن «الصفوة» تستطيع أن تقدم أى دليل على صحة هذا الاعتقاد، ولكنها استمرت تتصرف وتشعر إزاء محدودى الدخل، على أساس هذا الاعتقاد، وشاركهم فى هذا الشعور بالطبع المستعمرون القدامى، الذين عاملوا الفلاحين والخدم وكأنهم ينتمون إلى جنس مختلف من البشر.

كان هذا فظيعا بالطبع، ولكنه على الأقل لم يكن ينطوى على نفاق، فلم يكن «علية القوم» يقولون كلاما يتعارض مع سلوكهم. قارن هذا بما حدث فى عصر ما بعد الحرب الحالمية الثانية، أى بعد انتهاء عصر الاستعمار التقليدى، ومجىء ما يمكن أن يسمى بـ«الاستعمار الجديد»، الذى ما زلنا نعيش فى ظله حتى الآن.

رُفع أولا شعار جديد هو «التنمية الاقتصادية»، الذى لم يكن مرفوعا من قبل، والمقصود به الارتفاع بمستوى معيشة البلاد الفقيرة. واتخذت قضية الفقراء فى داخل هذه البلاد مبررا لهذا الاهتمام المفاجئ بالتنمية، فما أكثر صور الجوعى والمرضى من بين محدودى الدخل فى الدول المستقلة حديثا، التى وضعت على أغلفة كتب التنمية.

كان المبرر المقبول لجهود التنمية هو رفع مستوى معيشة الفقراء فيها، وإيجاد فرص عمل للمتبطلين، وكان هذا هو أيضا المبرر الذى قدم لما سمى بـ«المعونات الأجنبية». لم تكن المؤسستان الدوليتان الكبريان (البنك الدولى وصندوق النقد) قد نشأتا باسم الفقراء بالضبط، بل باسم تنمية الدول ككل، ومساعدتها على الخروج من أزماتها، ولكن كان من المفترض أن تنمية الدول لابد أن تنطوى أيضا على الارتفاع بمستوى محدودى الدخل. فلما ظهر ابتداء من أواخر الستينيات، أى بعد عقدين من إنشاء هاتين المؤسستين، أن تحسن أحوال هؤلاء كان محدودا للغاية، وأن البطالة زادت فى كثير من هذه البلاد بدلا من أن تنخفض، اضطرت المؤسستان، ومعها بعض المؤسسات الدولية الأخرى، إلى رفع شعارات جديدة، بدلا من مجرد شعار «التنمية الاقتصادية»، للإيحاء بأن شيئا جديدا يحدث، أو ينتظر حدوثه لمصلحة محدودى الدخل.

رفع البنك الدولى أولا، فى أوائل السبعينيات، شعار «التنمية مع إعادة التوزيع»، ثم رفعت منظمة العمل الدولية شعار «إشباع الحاجات الأساسية». ثم رفع البنك الدولى فى نهاية السبعينيات شعارا جديدا هو «التنمية الإنسانية». فلما ظهر أنه حتى «التنمية الإنسانية» لم تحقق فائدة تذكر لمحدوى الدخل، رفع شعار جديد آخر هو (Inclusive Development)، أى «التنمية التى لا تستبعد أحدا». ثم شعار (Social and Solidarity Economy) أى «الاقتصاد الاجتماعى والتضامنى». لن يكون هذا بالطبع آخر الشعارات التى تستهدف النهوض بمستوى محدودى الدخل، إذ إن «محدودى الدخل» سوف يظلون معنا، فيما يبدو، إلى الأبد، وسيستمر «صفوة القوم» فى الحديث باسمهم.

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات