بعد النهاية.. بداية - ياسمين بستانى - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 11:31 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بعد النهاية.. بداية

نشر فى : الإثنين 12 أكتوبر 2020 - 8:35 م | آخر تحديث : الإثنين 12 أكتوبر 2020 - 8:35 م

ذهبت إليه بالأمس. زيارة ودية خارجة عن إطار علاقتنا «العلاجية». علاقةٌ مُلتبسة بدأت قبل أكثر من 8 سنوات.
***
تعرفت إليه بالصدفة على صفحة صديق مشترك على فيسبوك. ترك تعليقا لفت انتباهى على أحد منشورات هذا الصديق، فطلبت صداقته. لم أجد ضيرا فى ذلك لا سيما أننى فى حينها كنت أستخدم حسابا وهميا أتلطى خلفه لأكتب ما أريد من دون أن أضطر إلى اللف والدوران إرضاء للأهل والأصدقاء.
***
بعد ذلك بأيام، وفى أمسية أحدٍ مُكفهرة، راسلته على الخاص متسائلة عما يفعله فى مثل هذه الأمسية الكئيبة. سألنى: لِمَ هى كئيبة؟.. أجبته: كيف لا تكون كذلك وهى نهاية؟... فأجاب: إنها ليست نهاية وبخاصة أن بداية أخرى تعقبها... هكذا بدأت علاقتنا.
***
كنت فى ذلك الحين أخضع لعلاج عند اختصاصى آخر، كان الحادى والعشرين على لائحة بدأت قبل 15 عاما من ذلك. 15 عاما حافلة بالمطبات والانهيارات، كنت أقع فيها وأنهض لأعاود الغوص فى متاهات ذاتى. واحد وعشرون اختصاصيا من الجنسَيْن واكبونى دون إجابات شافية. إجابات كانت لا تُقدِم ولا تؤخِر بل كانت تساعدنى فقط فى تجاوز محناتى مرحليا. إجابات كانت مشفوعة بجرعات كبيرة من أدوية مختلفة. كنت حقلا للتجارب. وبين كل تجربة وتجربة، كنت أغوص فى ظلمات عقلى ساعية إلى الموت أحيانا وإلى خلاصٍ على يد اختصاصى آخر فى أحيانٍ أخرى.
***
راسلته مُجددا مع أسئلة محددة... فدعانى إلى زيارته. ترددت كثيرا قبل الذهاب، كيف لا وأنا لا أعرفه، وأن ذلك ينطوى على خيانة لمن كنت أتعالج لديه حينئذ. بحثت عن معلومات عنه على الإنترنت لكننى لم أجد ما يشفى فضولى. عدت إلى صفحته على فيسبوك، تصفحت كل منشوراته وأصدقائه. ذهبت خائفة لا أنكر. كل من قصدتهم قبل ذلك كانوا بنصيحة من أصدقاء، فكيف لا أخاف وأنا ذاهبة إلى مجهول وإلى المجهول. لم أكن أعرف أننى فى تلك الزيارة سأجد خلاصى...
***
كان مُختلفا منذ الزيارة الأولى. لم يشأ سماع تاريخى مع الأدوية وآثارها الجانبية. قال لا شأن لى بها، أنتِ حرة فى تناولها وذلك لا يعنينى. صدمنى لأن السؤال الأول الذى كان يُطرَح على عادة كان عن تلك الأدوية. لم يتركنى طويلا لتساؤلاتى وقال لى حدثينى عنكِ، لا يهمنى غير ذلك.
***
كما قلت كان مختلفا، لا يعتمد طريقة بعينها فى العلاج... فى خلال السنوات الأولى، انتقلنا من العلاج المعرفى السلوكى وجها لوجه، إلى التنويم المغناطيسى والعلاج بالقصص وجلسات الاسترخاء، مرورا بجلسات طويلة من التحليل النفسى، كنت فى خلالها مستلقية على أريكة بيضاء مريحة لا أرى وجهه.
***
جلسات كثيرة سادها صمتٌ مطبقٌ من كلينا. وفى جلسات أخرى، كان هو يدير دفة الحديث. أما فى السنوات الأخيرة، فكنت أنا من يتحدث بلا توقف فى كثير من الأحيان.
***
كتبت كثيرا فى تلك السنوات: عن الماضى والحاضر، عن المشاعر والمشكلات، عن الأحلام والكوابيس التى كانت تراود ليلى. كنت أكتب بلا تردد، أفرِغ ما فى داخلى وأرسله إليه مباشرة دون أن أعاود قراءة ما كتبت. كان معظم ما كتبت موجها إليه أو هكذا كنت أظن.. ليباغتنى يوما فى إحدى الجلسات التى ساد فيها الصمت مطولا وكنت فيها غير قادرة على التعبير عن أمور خاصة للغاية، ويطلب منى أن أقف أمام مرآة معلقة على أحد جدران الغرفة. قال لى قفى أمام المرآة وأخبرينى عما ترينه فيها. وقفت ولم أجد سوى انعكاس لى. قلت له، لا أرى سوى نفسى. فأجاب: هكذا أنا، لستُ سوى المرآة التى ترين فيها نفسك، لذلك أفرغى ما فى داخلك ولا تخافى.
***
ذلك الموقف كان كفيلا بإزالة كل الحواجز التى كانت تجعلنى أتردد عن البوح بأمور كنت أظن أنه من غير الممكن التحدث عنها أمام أى كان، فكيف إن كان من أتحدث إليه رجلا. لم يعُد شخصا من جنسٍ آخر أمامى بل أصبح مرآة نفسى.
***
سنوات طويلة، غصت فيها فى أعماق ماضى وذاتى وأعدت فى خلالها النظر فى كل أوجه حياتى: نظرتى إلى نفسى، احترامى لذاتى، علاقتى مع الأهل، تعاملى مع الآخرين... سنوات كانت كفيلة بأن أنهض من جديد وأغير مسار حياتى، وأستطيع التحكم بزمامها. تلك السنوات لم تخلُ من المطبات، لكنه كان دائما إلى جانبى لتخطيها ضمن الحدود التى تفرضها عليه مهنته. الحياة تُخبئ لكِ دائما مفاجآت سعيدة هى العبارة التى كان يحرص دائما على ترديدها كلما ظننت بأننى وصلت إلى القاع.
***
كلامه كان قاسيا ومؤلما فى أحيان كثيرة، وحين كنت أخبره بذلك أو حين كان هو نفسه يشعر بأن كلامه قاسيا، كان يخبرنى بأن واجبه يقضى بأن يساعدنى فى كبوتى، لا أن يُسمعنى ما يرضينى فقط...
***
لا أذكر عدد جلساتى معه، وإن كنت متأكدة أنها بالمئات إن لم يكن أكثر.. وهو من جانبه يمتنع عن إخبارى بالعدد. يقول لى لا يهم، انظرى إلى نفسك الآن.. ذلك هو المهم... وبالفعل، هو محقٌ تماما، لا يهم. ما أنفقته من مال ووقت على تلك الجلسات كان الاستثمار الأفضل الذى قمت به فى حياتى، وأنا فخورة بكل قرش صرفته عليها.
***
ارتسمت الابتسامة الآن على وجهى وأنا أتذكر كل ذلك... وأنا أتذكر ذلك الأمان الرهيب الذى كنت أشعر به ما إن تطأ قدماى عيادته حتى فى أحلك الأوقات.
***
أقصده الآن من فترة إلى أخرى، أجد ذريعة لرؤيته وزيارة تلك العيادة. لا أُنكِر أننى أحن أحيانا إلى تلك الجلسات العاصِفة فى البدايات. فهناك بدأت حياتى الجديدة..
***
فى زيارتى الأخيرة، وجدت غرفة الانتظار فارغة من أثاثها. اعتذر قائلا إن الأزمة الحالية فرضت عليه الانتقال إلى مقرِ أقل تكلفة. الحزن الذى اعترانى فجأة عند سماعى الخبر ظهر على ملامحى. لاحظ ذلك فقال لى: صحيحٌ أنها النهاية هنا، لكن هل تذكرين سؤالك الأول عن النهايات، لا تخافى فهى تأذن ببدايات جديدة. وتذكرى أن الحياة تُخبئ لكِ دائما مفاجآت سعيدة...

ياسمين بستانى كاتبة لبنانية
التعليقات