العناد مع الحقائق: تجربة مبارك - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 1:17 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العناد مع الحقائق: تجربة مبارك

نشر فى : الأحد 14 فبراير 2016 - 10:05 م | آخر تحديث : الأحد 14 فبراير 2016 - 10:05 م
لم تكن إطاحة نظام «حسنى مبارك» قبل خمس سنوات مفاجأة بذاتها.

كانت الحوادث تتدافع إلى نهاية ما لحكم استمر لثلاثة عقود فى عناد مع الحقائق.

بعض السيناريوهات توقعت انفجارا اجتماعيا يزلزل وجوده، وبعضها الآخر رجحت احتمال حريق جديد للقاهرة، وبعضها الثالث لم تستبعد تدخلا عسكريا.

لم يخطر ببال أحد إطاحته بثورة شعبية مدنية تدعو إلى نظام ينسخ الماضى ويلتحق بعصره.

العناد، كـالضعف، يفضى إلى النهايات الدراماتيكية.

هناك فارق بين العناد والضعف.

الأول، يتجاهل موازين القوى المتغيرة ويستهتر بأزمات المجال العام، ما لم تهدد مباشرة أمن نظامه.

والثانى، تغيب عنه العزيمة السياسية لخفض أى احتقانات فى الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة.

فى لحظات النهاية تبدى عجز النظام الكامل عن إقناع مواطنيه بجديته فى الإصلاح وأخفقت كل تنازلاته المتأخرة فى خفض منسوب الغضب.

بصورة مقاربة وصل «مبارك» إلى نفس النقطة التى وصلها قبله بأيام الرئيس التونسى الأسبق «زين العابدين بن على» الذى قال متأخرا لشعبه الغاضب: «لقد فهمتكم».

فى تجربته الطويلة تناقضت بفداحة البدايات مع النهايات.

فور صعوده بعد اغتيال سلفه «أنور السادات» فى حادث المنصة أثناء الاستعراض العسكرى بذكرى «حرب أكتوبر» أقدم على ثلاث خطوات خفضت من الاحتقانات العامة بصورة لافتة.

الأولى: الإفراج عن كل المعتقلين السياسيين ورجال الدين الإسلامى والمسيحى الذين أودعهم «السادات» السجون فيما أطلق عليه «ثورة سبتمبر» (١٩٨١) التى استبقت اغتياله بشهر واحد.

وفّرت تلك الخطوة ثقة كبيرة فى قدرة الرئيس الجديد على خفض الصداع العام الذى أثارته سياسات سلفه وبناء بيئة عامة أكثر إيجابية.

الثانية: حسم المواجهة مع التمرد المسلح الذى تولته الجماعات الإسلامية بأعقاب اغتيال «السادات».

وقد أفضت نتائج تلك المواجهة إلى تغيير كبير فى الصورة السلبية التى استقرت فى المخيلة العامة لنائب الرئيس.

الثالثة: الدعوة إلى مؤتمر اقتصادى ضم كفاءات وخبرات متنوعة من جميع المدارس المصرية.

وكان ذلك داعيا لرفع منسوب الأمل العام فى المستقبل وتجاوز أى أزمات تعترض البلاد.

غير أن «مبارك» مال بالتدريج إلى جمود لا يحتمل فى المؤسسات والسياسات والوجوه.

بأثر تجربته الإنسانية أثناء حادث المنصة لم يكن يستمع لغير الأمن.

هو رجل رهن مصيره بالقبضة الأمنية، معتقدا أنها قادرة على حسم كل صراع وإنهاء كل تذمر.

وقد دفع فى النهاية ثمنا باهظا للرهان على «الدولة البوليسية».

للأمن أدواره التى لا يستغنى عنها أى مجتمع، وللسياسة خياراتها ووسائلها فى رفع منسوب الرضا العام الذى لا استقرار بغيره.

فى العشر سنوات الأخيرة من حكمه سدت كل القنوات السياسية والاجتماعية، وتعذر على نحو فادح أى رهان على إصلاح النظام من الداخل.

عندما يتعذر الإصلاح الضرورى فالانفجارات مؤكدة.

جاء التغيير فى «يناير» من خارج السياق السياسى الذى اخترقت أحزابه وهمشت منابره.

فلا يعنى تدجين السياسة وإغلاق منافذ التغيير أن النظم فى منأى عن الرياح العاصفة.

كما لا تعنى مصادرة حق المواطنين العاديين فى العدالة الاجتماعية أن الاضطرابات مستبعدة.

بدا الاستهتار فاحشا بنذر الغضب الاجتماعى التى وصلت إلى إضراب موظفى «الضرائب العقارية»، وهو أول إضراب للموظفين فى التاريخ المصرى كله.

أعرض عن رؤية حقائق مجتمعه وتملكته قرب النهاية عبارة «خليهم يتسلوا».

على نحو رمزى لخّص «مشروع توريث الجمهورية» من«الأب» إلى«نجله الأصغر» أزمات النظام كلها ووضعه مباشرة أمام النهايات المحتمة.

بدا المشروع تعبيرا عن سطوة رجال الأعمال المتنفذين فى صلب القرارين الاقتصادى والسياسى وزواج السلطة والثروة بما يوحى بمزيد من النهب فى الموارد العامة.

لم يكن ممكنا بأى حساب توريث الحكم بغير أثمانٍ باهظة واضطرابات لا قبل لأحد بها.

قبل شهور قليلة من «يناير» توقع رئيس الاستخبارات العسكرية اللواء «عبدالفتاح السيسى» مثل هذا السيناريو، إذا ما تنحى «مبارك» وأفسح المجال لخلافة نجله.

وفق روايته، على ما استمعت إليها بعد الثورة مباشرة، فقد اقترح على المشير «حسين طنطاوى» إجراء تقدير موقف لما يتعين أن يقوم به الجيش إذا أفلت الزمام من أى سيطرة، جراء الغضب الشعبى المتوقع.

بالحساب الوطنى فهو موقف شجاع يحسب فى رصيده.

وبالحساب التقليدى فهو خروج عن مقتضيات مهامه يعرضه للمساءلة، والعزل إذا ما تسربت أسراره.

الذين يصفون «يناير» بـ«المؤامرة» يتهمون الجيش نفسه بالتورط فيها ويهينون الإرادة الشعبية الكاسحة فى إزاحة حكم فاسد ومستبد.

من الطبيعى فى بلد محورى مثل مصر أن تتدخل أجهزة استخبارات دولية لتوظيف الأحداث الكبرى وفق مصالحها الاستراتيجية، أو على الأقل خفض فاتورة المخاطر على تلك المصالح.

غير أن ذلك لا يعنى أن الفعل الثورى نفسه مؤامرة وأسبابه «نكسة».

كل شىء يتحرك فى مصر كان ينذر بالنهايات القريبة، وقيمة «يناير» أنها عكست الإرادة العامة التى لا سبيل لتحديها.

تبدت حالة غضب بين الأجيال الجديدة وجماعات المثقفين وكل ما له قيمة فى البلد، استقطبت المشاعر العامة حتى بدا النظام كله فى عراء سياسى موحش.

رغم الاحتقانات السياسية والاقتصادية التى دعت الطبقة الوسطى والفئات الأكثر احتياجا إلى إعلان تذمرها فقد كان «مشروع التوريث» هو نقطة التفجير التى استدعت كل الغضب إلى كل الميادين.

لم يكن الجيش فى وارد الصدام مع الإرادة الشعبية لتمرير التوريث أو الدفاع عن نظام فقد مبررات وجوده.

ولم يكن الأمن بوسعه توفير أى ضمانات لتمرير هذه الخطوة الخطيرة فى بنية السلطة العليا.

ولم يكن هناك ظهير سياسى يؤيد «مبارك» فى لحظاته الأخيرة، فقد انهار حزب السلطة مع أول هتاف فى ميدان «التحرير» وأول صدام مع قوات الأمن.

ما هو مصطنع يسقط فى كل اختبار.

عندما أعلن نائب الرئيس «عمر سليمان» فى كلمة متلفزة قصيرة للغاية تخلى «مبارك» عن السلطة رددت عشرات الملايين هتافا سوف يبقى طويلا فى الذاكرة العامة: «ارفع رأسك فوق.. أنت مصرى».

فى الهتاف الجماعى تعبير سياسى عن الحاجة إلى القطيعة مع الماضى الذى قوض أى كرامة إنسانية.

وفيه تعبير اجتماعى عن شوق لرفع المظالم التى أهدرت أى عدالة اجتماعية.

كما ينطوى على معنى تاريخى لا يمكن إغفاله فى استعادة مكانة مصر فى محيطها وعالمها، وهى المكانة التى أهدرت على نحو كارثى بعد توقيع اتفاقية السلام عام (١٩٧٩).

سقط «مبارك» لأن نظامه تقوّض من الداخل دون حاجة إلى مؤامرة وعجز بالكامل عن الاستجابة لحقائق عصره وأولها التحول إلى دولة ديمقراطية وعادلة.