سألته: كيف يرى المستقبل المصرى بعد الانتخابات الرئاسية؟
بكلمات موجزة أجاب «رومان جوبرت» رئيس تحرير مجلة «لوبوان» الفرنسية: «كل شىء يتوقف على مدى استجابة السيسى لمطالب شعبه».
فى إجابته توقع أن المشير «عبدالفتاح السيسى» هو الرئيس المصرى القادم وفى صلبها حيرة من لا يعرف مدى استعداده لتأسيس نظام سياسى على أسس جديدة لا تستنسخ ما قبله ولا تناقض أهداف مواطنيه.
أيا ما كانت نتائج الانتخابات الرئاسية فهذا السؤال أخطر اختبارات ما بعدها.
سأل «جوبرت»: «هل تعتقد أنه مستعد؟»
أجبته: ليس هناك بديل آخر.
التجربة المصرية على مدى أكثر من ثلاث سنوات حقائقها ماثلة أمام المرشحين للرئاسة.
فالتحولات حادة فى المشاعر العامة والانقلابات دراماتيكية فى الموازين السياسية والسقوط يتتابع لقوى وتيارات ورجال.
مصائر اللاعبين الرئيسيين تناقضت بصورة دراماتيكية بين صعود فارق خيالها وسقوط لم يخطر ببالها.
اضطراب المشاعر العامة بين أهداف تلهم وإحباطات تؤلم من طبيعة الثورات.
شىء يقارب ألعاب الروديو حدث فى التجربة المصرية.
فى تلك الألعاب التى تستهوى رعاة البقر فى الغرب الأمريكى اختبارات صعبة لمدى قدرة السيطرة على جياد جامحة.
اختلفت التوجهات وتصادمت الإرادات بين الذين سقطوا على التوالى لكن ما جمع بينهم عنوان واحد «عدم الاستجابة لمطالب الناس».
قرب إطاحة الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» تصور رجله القوى اللواء «عمر سليمان» أن الأمور سوف تئول إليه لا محالة وأنه خليفته على المقعد الرئاسى.
راهن على تفاهمات مع جماعة الإخوان المسلمين للانسحاب من تظاهرات الثورة وميادينها مقابل إضفاء شرعية عليها وعلى احتواء جماعات الشباب الغاضب وإعادة إنتاج النظام فى الوقت نفسه وعلى دعم المجلس العسكرى لصعوده الرئاسى فهو من المؤسسة ذاتها وعارض سيناريو التوريث.
رهاناته اصطدمت بالحقائق وتجاوزتها الحوادث بأسرع مما توقع وخرج من المشهد السياسى فى اللحظة التى أعلن فيها بنفسه تخلى «مبارك» عن السلطة.
لوقت طويل نسبيا أمسك المشير «محمد حسين طنطاوى» بزمام الأمور لكن سوء إدارة المرحلة الانتقالية أفضت إلى تقويض شرعيته على نحو متسارع حتى باتت السلطة بالنسبة إليه هما مقيما.
فى صدامات الشوارع مع شباب الثورة تراجعت سمعة الجيش بصورة غير مسبوقة وغير محتملة.
اتبع «المجلس العسكرى» الخطة العامة للواء «عمر سليمان» فى التفاهم مع الإخوان باعتقاد أنها القوة المهيمنة على الشارع والولايات المتحدة زكت التفاهمات.
خسر «العسكرى» رهانه على نحو أفقده صدقيته. أجريت الانتخابات النيابية بلا دستور وعطلت أية احتمالات لتوافق وطنى على قواعد الدولة المدنية وسلمت السلطة للجماعة على عكس تعهدات المشير بأنه لن يسلمها إليها.
تناقضت النهايات مع البدايات، فمن هتاف جماعات الشباب «الشعب والجيش إيد واحدة» إلى «يسقط حكم العسكر» المهين للتاريخ الوطنى للمؤسسة العسكرية التى حُملت بإخفاقات قياداتها ومن هتاف «يا مشير أنت الأمير» فى «جمعة قندهار» إلى «الشعب يريد إعدام المشير» على ما هتف الإخوان والسلفيون بعدها.
تداخلت المشاعر والمقاصد وجرى توظيف الشباب الغاضب لغير قضيته سعيا لتغيير طبيعة الدولة بما ليس له علاقة بالثورة وتضحياتها.
قبل إطاحة «المشير» سقط آخرون من فوق جياد الروديو على رأسهم رؤساء حكومات كالفريق «أحمد شفيق» المحسوب على النظام السابق والدكتور «عصام شرف» الذى صعد لمنصبه باسم ميدان التحرير ومسئولين كبار فى الدولة من محافظين ورؤساء شركات وهيئات عامة ورؤساء مؤسسات صحفية.
كان الفوران الشعبى جامحا يطلب تغييرا شاملا فى السياسات والوجوه وجرت تجاوزات نالت بفداحة من احترام الوظيفة العامة.
اختفت وجوه من على شاشات الفضائيات ارتبطت بنظام «مبارك» وتصدرت وجوه أخرى تنتسب للقوى الشابة والأحزاب الصاعدة وبعضها الآخر إلى جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها.
غير أنها خضعت بأسرع من كل التوقعات لألعاب الروديو وإطاحاتها السريعة.
بعض الذين أطاحتهم يناير عادوا تاليا وبعض الذين تصدروها ذهبوا إلى النسيان وبعضهم إلى السجون.
فى الانتخابات الرئاسية السابقة وصلت ألعاب الروديو السياسية ذروتها، فالصعود أعقبه سقوط سريع والرئيس الذى انتخب لم يبق فى منصبه سوى عام واحد ذهب بعده للسجن باتهامات خطيرة والجماعة التى ينتسب إليها أخذتها نشوة الحكم إلى رهان أن تبقى فيه لخمسمائة عام مقبلة وخسرت كل شىء بأسرع من أية توقعات.
لوقت لم يطل صعدت أسماء «خيرت الشاطر» و«محمد بديع» و«محمد سعد الكتاتنى» وآخرين باعتبار أن أدوارهم تتجاوز الرئيس نفسه الذى لم يكن مهيأ للحكم وقدراته خذلته وصعد حلفاء مثل «حازم أبوإسماعيل» وانفلت العيار إلى مدى لا يحتمله أى مجتمع وكان السقوط محتما.
فى الانتخابات صعد مجددا «شفيق» بصورة فاقت الحسابات لكنه ذهب إلى منفاه الاختيارى.
لم تكن الأصوات المرتفعة للغاية التى حصدها انتخابيا تعكس حجمه السياسى الحقيقى فى الشارع.
بعد صعود «محمد مرسى» جرت ملاحقته قضائيا لأهداف سياسية قبل أن تكون جنائية.
رغم أن الحلم الرئاسى لم يفارقه لفترة طويلة فإن أقداره ساعدته فى الإفلات من مصير الرئيسين السابقين، فقد كان توليه الرئاسة مشروع اضطراب سياسى واجتماعى لا مثيل لخطورة نتائجه ومن بينها تمكين الإخوان المسلمين بصورة شبه كاملة.
فى تراجيديات رئاسية (٢٠١٢) صعد اسم «عبدالمنعم أبوالفتوح» كمشروع سياسى يتجاوز الصدام المحتمل بين القوى الإسلامية والقوى المدنية. استقطب قطاعات واسعة من القوى السياسية الحديثة وحاز تأييد قطاعات من السلفيين والأحزاب التى خرجت من عباءة الإخوان المسلمين لكن خطابه أخفق قرب نهاية السباق فى طمأنة أغلب الرأى العام من أنه قطع صلته الفكرية والسياسية بالجماعة التى كان ينتسب إليها وتراجع بصورة مفاجئة إلى المركز الرابع بعدما كانت تؤشر الاستطلاعات إلى احتمال حصده المنصب الرئاسى.
بحسب معلومات مؤكدة فإن المجلس العسكرى كان شبه مقتنع بأن الرئاسة سوف تؤول إليه فى صناديق الاقتراع و«السيسى» مال إلى هذا الاعتقاد.
تراجع دور «أبو الفتوح» بالتدريج إلى الهوامش البعيدة.
قصة «عمرو موسى» تختلف، فقد تحمل هزيمة مهينة فى الانتخابات الرئاسية لكنه نجح فى ترميم صورته السياسية فى صفوف جبهة الإنقاذ قبل أن يحوز ثقة الرأى العام فى قدرته كرجل دولة من جديد بعد تجربته فى رئاسة لجنة الخمسين للتعديلات الدستورية.
كان صعود «حمدين صباحى» أكبر مفاجآت العملية الرئاسية السابقة فقد خالف كل التوقعات والاستطلاعات وتقدم إلى المركز الثالث ولو أن الوقت أسعفه لتمكن من دخول جولة الحسم. وبأية حسابات موضوعية وفق الخرائط السياسية وقتها فإن الرئاسة باليقين كانت سوف تؤول إليه.
هو يدخل الآن اختبارا جديدا فى ظروف غير مواتية ليؤكد لنفسه قبل أى أحد آخر قدرته على التحدى استنادا إلى أفكاره التى يعتقدها ومواهبه التى يحوزها.
فى تراجيديات ما بعد يناير فإن من أكثر مشاهدها إثارة تصدع جبهة الإنقاذ فى اللحظة التى سقطت فيها جماعة الإخوان المسلمين.
الخيارات تفرقت بين أحزابها وقياداتها وانتهى دور منسقها العام الدكتور «محمد البرادعى» من فوق خرائط المستقبل.
بطبائع الأمور فإن الصحفى الفرنسى «رومان جوبرت» قد لا يكون ملما بأسرار وخفايا التراجيديا المصرية وانقلاباتها لكنه يعرف من تاريخ بلاده أن للثورات طبائعها وأن «المقاصل» التى أنهت حياة زعامات الثورة الفرنسية واحدا تلو آخر ومجموعة بعد أخرى قد يكون لها ما يرادفها فى القاهرة المضطربة لكن ليس على النحو نفسه فالعصور تختلف والتجارب تتباين.
ما هو مؤكد أن غياب قواعد الشرعية والممانعة فى الاستجابة للمطالب الشعبية من أسباب طول المعاناة.
«السيسى» نفسه يقول إنه لن ينتظر أن تطالب الجماهير باستقالته وأن يتدخل الجيش.
احتمال الغضب الشعبى قائم بأسبابه بالنسبة إليه أو إلى منافسه «صباحى» وإذا لم يستقر البلد على قواعد دستورية تنهى أية تناقضات محتملة بين السياسات العامة وطموحات التغيير فإن أحدا لا يعرف ما قد يحدث. وهذا ما لم يعد فى طاقة المصريين احتماله.