العيد في البيت الكبير - نيفين مسعد - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 11:47 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العيد في البيت الكبير

نشر فى : الخميس 14 يونيو 2018 - 9:20 م | آخر تحديث : الخميس 14 يونيو 2018 - 9:20 م

ها قد انتهي شهر رمضان وجاء العيد، يحب الأطفال هذه الأجواء الرمضانية التي لا يعيشونها طيلة العام،
يَرَوْن آباءهم في خلال ثلاثين يوما ربما أكثر ما يرونهم في عام كامل، يجلسون إلى المائدة معا.. يُصَلُّون معا.. يزينون الشرفة معا.. يتسوقون معا ويقترب الأهل منهم وهم منهم يقتربون. لكن مع ذلك فإن العيد ألذ بالنسبة للصغار، ألذ لأن رمضان يذكرهم أنهم صغار وتبدو معه طفولتهم كما لو كانت عبئا عليهم، يضحك عليهم الكبار ويقولون لهم إنه يمكنهم الصيام لبضع ساعات أو يمكنهم الصيام عن الطعام دون الشراب فينطلي عليهم هذا القول حينا ثم لا يلبثون أن يدركوا أنهم لا يصومون لأنهم صغار ليس إلا وهم يتعجلون النضج الذي يتوهمون أن فيه خيرا كثيرا. أما العيد فإنه يأتي ليزيل الفوارق بين الكبار والصغار ويصير الكل سواء يأكلون ويشربون. وهو ألذ لأنه انفلات من كل القواعد والممنوعات والنوم المبكر، هروب من كل حذار ولا يجوز ولماذا فعلت أو فتحت أو شاهدت، لتأتي أيام معدودات تخف فيها الرقابة وتتسع مساحة الحرية إلى الحد الأبعد.. الممكن. هكذا ينطلق مدفع إفطار آخر أيام الشهر الكريم لتنطلق معه كل مدافع بهجة الصغار.
***

قضت العفريتة ذات الخمسة أعوام ليلة العيد في البيت الكبير، تعبير البيت الكبير تعبير مجازي بالتأكيد فهو لم يعد يحمل من دلالات بيوت الماضي الكبيرة إلا أنه بيت الأجداد، أما الاتساع والازدحام والعائلة الممتدة من الأجداد إلى الأعمام فلم يبق منهم شيء . أنفقَت الصغيرة ساعات ما قبل أن تنفد طاقتها بالكامل وهي تجري من الجدار إلى الجدار، تختبئ وهي تظن أن أحدا لا يراها مع أن كل أحد يراها، لا تترك فرصة حتى لمن يطاردها ليدعيّ أنه لم يرها بل هي تظهر له وتنبهه لوجودها فإن همّ بإمساكها تملصت وأفلتت وجرت ضاحكة. سعادة الأطفال مُعدية.. تلمسك ضحكاتهم الصادقة فإذا بهرمونات البهجة تتفجر في دمائك وتتحول بك إلى طفل كبير، أنت لست معنيا بالحفاظ على هيبتك ومظهرك ووقارك في مثل هذا الموقف، أنت نفسك تحتاج أحيانا إلى مبرر لتستمتع بحالة الفطرة الأولى.
***
عندما حلّ التعب بالصغيرة استسلمت للنوم بين أحضان جدتها على وقع قصة "حبة القمح"، سبق للجدة أن سمعت هي نفسها هذه القصة فإذا بها حين تحكيها تكاد تسمع صوت أمها في أذنيها، تتذكر.. تحّن.. تختلج.. لا لن تسمح للذكريات بأن تثير أشجانها في ليلة العيد بل ستجعلها سبيلا لتقدم أمها إلى حفيدتها وهما اللتان لم تلتقيا قط. وديعة مسالمة بدت الصغيرة في رقدتها وهكذا كل الأطفال فلست تدري أين ذهبت شقاوتهم ومعاركهم، ولست تعرف كيف يمكن لأحضان مهما اتسعت أن تحتوي بين ضفتيها هذه الحيوية القابلة للتفجر في أي لحظة. تنام الصغيرة كالأميرة، وفي ضوء مصباح خافت لطرد الأشباح والأوهام يتلألأ الجليتر أو الذرات اللامعة التي تعلو أظافرها المصبوغة بألوان قوس قزح. تتوسد ابتسامة حانية شفتي الجدة وهي تنقل بصرها بين أظافر الصغيرة وكل منها يحمل لونا مختلفا، هذا أحمر قاني وهذا بنفسجي داكن وهذا برتقالي فاقع وهذا نست الحبيبة أن تطليه أو لعلها ملت قبل أن يصل الطلاء إلى خنصرها، ولا أسرع مللا من طفل. تختلط رائحة عرق الصغيرة برائحة حمام العيد الذي استسلمت له هذه المرة دون مقاومة، لا يصح أن ترتدي بيچامة العيد إلا وهي نظيفة. بيچامة هذا العام مثل العام الماضي والعام الذي سبقه يوجد فيها مكان ما لطائر البطريق، هذا الطائر الذي تعشقه الحفيدة وتفضله على سائر الطيور، شيء ما في وداعته.. في شكله اللطيف.. في طريقة سيره المميزة جعلتها تتعلق به ولعله أيضا يثير فضولها. ضغطت الجدة جسد حفيدتها أكثر واعتصرتها هي وبَطْرِيقَها الأسود في أحضانها أكثر وأكثر وراحت في سبات عميق.
***
صباح يوم العيد في البيت الكبير ضجة وضوضاء، تعانق الصغيرة أبويها كأنها غابت عنهما لشهور طويلة وليس لساعات الليل فقط، مصمصت الجدة شفتيها وهي تستحضر المثل القديم الذي مازالت تحفظه عن أمها " هننونا وبننونا ونعرف طريق اللي ولدونا" ، فها قد نست الحفيدة سريعا كل ما جرى ليلة أمس من أول ركض الجدة وراءها من ركن لآخر من أركان البيت وحتى حدوتة ما قبل النوم وارتمت في أحضان أبويها فور أن رأتهما. جرس الباب لا يهدأ.. أطفال الجيران.. الحارس.. الكوّاء.. المسحراتي وآخرون. السكر المتساقط من حلوى الكعك اللذيذة يصلح لاقتفاء آثار الأقدام من غرفة الطعام إلى كل مكان في الشقة. أصوات الملاعق في أكواب الشاي والنسكافيه لا تتوقف كأن مقهى صغيرا افتُتِح حديثا في هذا المكان. البالونات الملونة المملوءة بغاز الهليوم تلتصق بالسقف ووجوه شخصيات ديزني تطل منها وكأنها جاءت للتهنئة بالعيد. تمسك الصغيرة عيديتها بسعادة وتسأل جدها سؤالا هو: أليست هناك ثلاثة أيام للعيد؟ يرد عليها الجد بثقة تامة : نعم يا حبيبتي. تتبع سؤالها بآخر هو: لماذا لا تكون هناك ثلاث عيديات كما أن هناك أياما ثلاثة للعيد؟ تريث الجد في إجابته بحثا عن رد منطقي مقنع، لكن المشكلة أنه هو نفسه لم يقتنع أبدا لماذا هناك ثلاثة أيام للعيد. مضت عليه برهة صال فيها بفكره وجال قبل أن يرد عليها: هذه عيدية مجمعة للأيام الثلاثة حتى تشترين بها لعبة أكبر وأجمل! نظرت إليه الصغيرة في شك فتحاشى أن يبادلها النظر كي لا تكشفه. التقط كعكة بالملبن والتهمها غير عابئ بتحذيرات الأطباء، رفع صوت التلفزيون ليقطع الصمت الذي ساد فجأة فلعلع صوت صفاء أبو السعود بأغنية "أهلا أهلا بالعيد .. مرحب مرحب بالعيد هيه هيه هييييييه" .

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات