الجنائن المعلقة.. فيلم يعيد تشكيل السينما العراقية لوطن مزقته الحرب - خالد محمود - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:49 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الجنائن المعلقة.. فيلم يعيد تشكيل السينما العراقية لوطن مزقته الحرب

نشر فى : الخميس 15 ديسمبر 2022 - 10:00 ص | آخر تحديث : الخميس 15 ديسمبر 2022 - 10:12 ص

ينتمي المخرج أحمد ياسين الدراجي إلى جيل جديد يعيد تشكيل السينما العراقية، وفق رؤية اجتماعية مغايرة، وهو فى فيلمه الجديد "الجنائن المعلقة"، إنتاج عراقي مصري سعودي بريطاني، اختار قصة رمزية ليرويها عن العراق اليوم، وأراد بشدة العودة إليها، على الرغم من الصعوبات الكبيرة.. فصنع الأفلام هناك له نكهة الاكتشاف.

الدراجي أراد أن يطرح أسئلة ببساطة عن طريق سرد قصة جذابة من ناحية التعاطف الاجتماعي تنظر فيها الشخصيات إلى "ماذا لو؟"، ويتساءل الجمهور "ماذا أفعل في مكانهم؟"

أتى بممثلين صغار وجمع الطاقم الداعم من الحي الذي نشأ فيه وظهروا كشركاء فى مسألة الإبداع، قطعوا خطاً رفيعًا لنقل حقيقة قصة صبي بتفاصيلها الأكثر حميمية وتأثيرًا. والنتيجة تشهد على ما يتطلبه الأمر ليس فقط للبقاء على قيد الحياة، ولكن للعيش بمعنى في عراق اليوم.

في أحداث الفيلم الذى عرض بمسابقة مهرجان البحر الأحمر وفاز بجائزة اليسر الذهبية، نتتبع قصته من خلال جامع قمامة صغير ويتيم يدعى أسعد "حسين جليل" يبلغ من العمر 12 عامًا، يجد في كيس نفايات من قاعدة أمريكية ببغداد ، دمية شقراء مثيرة جنسيا تدعى "شريك" سيليكون بالحجم الطبيعي حيث تلعب دورا مهما في الفيلم، فالدمية لها وجه تعبيري يتعرف فيه على صورة والدته التي لم يعرفها من قبل "يسميها سلوى ويعتني بها" ويستغلها ويعبر إلى منطقة حمراء محفوفة بالمخاطر؛ ليجد نفسه عالقًا في تبادل إطلاق النار بين قوى متعددة في عالم فقد فيه المدافعون عن الإنسانية قوتهم.

ويتحلى أسعد بالشجاعة التي يتطلبها ليس فقط للبقاء على قيد الحياة، ولكن للعيش أيضا هو وأخيه طه 28 عاما "وسام ضياء" اللذان يكسبان لقمة العيش بالكاد من جمع القمامة في "الجنائن المعلقة" - اللقب المحلي لمقالب نفايات واسع في ضواحي بغداد، حيث يبحث عن الخردة القابلة للبيع، وخاصة الخردة المعدنية والبلاستيكية لإعادة التدوير، والتي يتم شراؤها من قبل تاجر القمامة "جواد الشكرجي" بعد أن أصبحوا أيتامًا بسبب الحرب .بالنسبة لأسعد، من الواضح أنها مغامرة أيضًا، حيث يبحث عن نفايات قواعد الجيش الأمريكي بشكل خاص.

وفي تتابع الأحداث، عندما يحضر أسعد الدمية إلى المنزل ويقدمها على أنها شيء من الجمال، يعتدي طه على أخيه الصغير أسعد يتراجع إلى الحدائق المعلقة ليصنع منزلًا جديدًا لنفسه واكتشافاته المعجزة، حيث اكتشف وصديقه أمير أن الدمية تستطيع التحدث، علموها لغة الإغراء باللغة العربية وجعلوها تعمل لصالحهم كعنصر إغراء للمراهقين وربحوا منها قبل أن يتم اختطاف الدمية ومطاردة أسعد.

في سياق السرد الدرامي المفعم بالمشاعر، يحذر طه اسعد قائلاً: "أنت سيء الحظ"، وما زال يشعر بالصدمة والكراهية للأحداث التي قتلت والديهما، لكن أسعد لا يكترث كثيرًا، يجني بالقليل من المال من خلال بيع أكثر الصور جاذبية؛ ما يثير غضب طه في نفس الوقت: "نحن بالكاد ننجو بالطريقة الحلال، وتريد إضافة هذا الحرام!".

بينما يؤمن سعد بعد استخدام الدمية أنه لن تظل الأمور كما هي لفترة طويلة، حيث قرر مواصلة استغلال العروسة الدمية لتقف أمامها طوابير طويلة من المشتاقين للقاء الشقراء الاصطناعية التى تبدو كمارلين مونرو، وعندما تختفي الدمية، يجب على أسعد أن يتصالح مع عواقب خطته المحفوفة بالمخاطر، فهو فتى لطيف يحلم بحياة أفضل ويحرص على كسب بعض المال. خططه حسنة النية، إذا كانت مشكوك فيها من الناحية الأخلاقية، ومن السهل فهم سبب المخاطرة بها. الحياة الحلال صعبة.

المخرج الدراجي، معالج بارع للوجوه والأماكن ، يتنقل بحرية بين المناظر الطبيعية العاطفية، ويوفر المرح والكآبة في أي لحظة واستحضر عنصر الخيال العلمي إلى الفيلم؛ ليحكي قصته الخاصة هنا؛ ليكتشف الجميع هذا العالم المختلف من خلال نفاياته مع هذه اللعبة الجنسية في كيس بلاستيكي.

فى الصورة ندرك إنه مجتمع أبوي للغاية، حيث يتحدث هذا الفيلم عن عدم التوازن - عن مجتمع تُجبر فيه النساء على الاختفاء. ويتسم الرجال بالعنف، وبمجرد خروج النساء من الصورة، يزداد الأمر سوءًا.

إنه فيلم مجازي للغاية ، ويمكن أن تمثل دمية الجنس هذه أشياء كثيرة: التأثير الأمريكي والرأسمالية، وكل هذه الحياة التي تحيط بنا، ولسنا مجهزين للتعامل معها حتى الآن. 

الطفل دون شك يمثل جيل العراق الجديد الذي ولد أثناء الغزو. تم العثور عليه في مكب النفايات بنفس الطريقة التي عثروا بها على آخر لاحقًا، ويذكرنا الفيلم بالواقعية الإيطالية الجديدة: طفل آخر يعيش وسط الدمار، ويبدو ان المخرج متأثر بتلك الواقعية استخدم الإضاءة الطبيعية فقط، ليتخطى هذا الخط الرفيع بين الواقع والخيال.

نحن أمام فيلم مؤثر يتناول موضوعات تجد ثقافتها العراقية من المحرمات في كثير من الأحيان.

وبينما لا يحاول المخرج أحمد ياسين الدراجي إثارة ضجة، من الواضح أيضًا أنه لا يخشى استكشاف الموضوعات التي غالبًا ما يُنظر إليها على أنها "من المحرمات" مع فيلمه الطويل الأول. الجنس والرغبة في الثروة المادية هما الموضوعان الرئيسيان في الحدائق المعلقة. 

غالبية الممثلين هم من السكان المحليين، ومن الواضح أن صانعي الأفلام يفهمون هذا العالم، وقد عاشوا فيه، ولديهم الرغبة في سرد القصص التي ربما لم يروها على الشاشة من قبل

ويقدم ضياء أداءً مذهلاً لمثل هذا الممثل الشاب. إنه يشعر وكأنه طفل لائق، ولديه تلك البراءة والطبيعة المفعمة بالحيوية، ولكن أيضًا لديه إحساس بالنضج؛ لأنه عاش حياة صعبة ومعرفة ما يعنيه النضال. 

مع اقتراب الفيلم من نهايته، مع احتراق الحدائق المعلقة، يكون رمزًا مؤثرًا وقويًا لمدى زوال التحرر من النضال بالنسبة لأولئك مثل أسعد، إنها تبدو وكأنها لحظة تشعر فيها بأن آخر بقايا براءته تتلاشى بعيدًا.

"الجنائن المعلقة" بداية مؤثرة وواثقة للغاية من الدراجي، على الرغم من فرضيتها التي تثير الدهشة. إنها قصة مؤثرة حقًا عن الروح الحرة للطفل والرغبة في إبعاد الصراع عن الحياة في العراق الذي مزقته الحرب، وهي بالتأكيد تستحق البحث عنها.

خالد محمود كاتب صحفي وناقد سينمائي
التعليقات