حسابات العصيان ودلالاته - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 6:03 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حسابات العصيان ودلالاته

نشر فى : الخميس 16 فبراير 2012 - 9:35 ص | آخر تحديث : الخميس 16 فبراير 2012 - 9:35 ص

شُغلت مصر طيلة هذا الأسبوع وما قبله بالانقسام حول الدعوة إلى «عصيان مدنى» كأداة ضغط لتحقيق مطالب الثوار. لم يلتفت الكثيرون إلى أن فهم البعض للعصيان المدنى يخلط بينه وبين الإضراب أو حتى مجرد التظاهر. صحيح أن الإضراب والتظاهر بالمعنى اللغوى ــ وليس السياسى ــ نوع من العصيان، ولكن «العصيان المدنى» أوسع من ذلك بكثير، فهو يتضمن رفضا لسياسات معينة للدولة وأحيانا رفضا للدولة ذاتها كما فى رفض قوانين التمييز العنصرى فى الولايات المتحدة فى حركة الحقوق المدنية بزعامة مارتن لوثر كنج فى ستينيات القرن الماضى (بالنسبة للحالة الأولى)، ورفض «دولة الاستعمار» فى الهند فى النضال المدنى الذى قاده غاندى فى النصف الأول من ذلك القرن، وكذلك الحال بالنسبة لدولة النظام العنصرى فى جنوب أفريقيا قبل تصفيتها فى التسعينيات (بالنسبة للحالة الثانية)، وحتى الاستشهاد بالحالة المصرية فى ثورة 1919 يمكن أن يُكيَف على أنه رفض من الشعب المصرى للاحتلال البريطانى ودولته، فيما يمكن أن يرتبط الإضراب بقضية جزئية للغاية كمطلب فئوى مثلا، ويكون التظاهر تعبيرا عن رد فعل لقرار يرفضه المتظاهرون. وفى الحالة الراهنة فى مصر فإن معظم مطالب الداعين إلى العصيان المدنى من الممكن الاستجابة له فى ظل الدولة والنظام القائمين، وعلى أية حال فإن هذا الجدل النظرى ليس ذا تأثير يذكر فيما شهدته الساحة السياسية المصرية هذا الأسبوع وقبله، ولكن التوضيح لازم.

 

●●●

 

أما الأكثر أهمية فهو ما يتعلق بما ظهر خلف دعوة «العصيان المدنى» من انقسامات حقيقية تشهدها الساحة السياسية المصرية، فقد دعا فريق من النخبة الثورية إلى العصيان فيما عارضه فريق آخر داخل هذه النخبة ذاتها لم يكن بالتأكيد ضد مطالب الداعين، ولكنه تحفظ على ملاءمة الوسيلة، وهو ما يشير إلى تلك الظاهرة المؤسفة التى شهدتها ثورة يناير عقب نجاحها فى الإطاحة برأس النظام، وتمثلت فى فقدان قوى الثورة وحدتها. يضاف إلى ذلك بطبيعة الحال رفض تيار «الإسلام السياسى» دعوة العصيان المدنى، ومعه عديد من النقابات المهنية التى تسيطر على مجالسها القيادية عناصر من هذا التيار، وبدا العمال منقسمين بين نقابات مستقلة تؤيد دعوة العصيان واتحاد رسمى يعارضها. والأهم من ذلك كله رفض المواطن المصرى العادى الذى كان وقودا أساسيا لنار الثورة التى أحرقت رأس النظام السابق، وبدون هذا المواطن كان ممكنا أن تقف ثورة يناير عند مستوى الحركات الاحتجاجية التى تواترت فى السنوات الأخيرة من عمر النظام السابق دون أن تنجح فى تغييره، وإن أحدثت التراكم الذى أفضى لاحقا إلى الثورة.

 

فى خلفية المشهد كانت هناك أجهزة الدولة الرسمية التى اتخذت بطبيعة الحال موقفا مضادا لدعوة العصيان، ومعها جهازها الإعلامى، وفى مقابله وسائل الإعلام غير الرسمية المرئية والمكتوبة التى لم يدخر معظمها وسعا فى التحريض على قبول الدعوة، وانضمت المؤسسات الدينية لذلك الجدل، ليس من منظور سياسى وإنما بتأثيم الدعوة دينيا، واعتبارها معارضة لصحيح الدين، وهو شَرَكٌ كان المرء يتمنى ألا تقع هذه المؤسسات فيه، فليس معقولا أن نعترض على «تديين» السياسة فى الأحزاب ونقبله من المؤسسة الدينية، فقد آن الأوان لكى نتبنى المواقف فيما يتعلق بالقضايا السياسية على المنطق السياسى وحده. وعلى الرغم من أن التحليل العلمى كان يشير إلى أن فرص نجاح الدعوة إلى العصيان محدودة فإن أجهزة الدولة تحسبت لها بنزول قوات الجيش إلى الشوارع لكى تحمى المنشآت والممتلكات وتحفظ الأمن، وكان هذا التحسب ضروريا لأن «معظم النار من مستصغر الشرر»، وما كان أحد يضمن ألا تحدث محاولات للتخريب تقوم بها عناصر لا تنتمى للثورة ولا تحرص عليها.

 

●●●

 

ثم جاء اليوم الموعود والأيام التى تليه ليتحقق التنبؤ بمحدودية الاستجابة، وكان واضحا أنها تكاد أن تكون قد اقتصرت جزئيا على قطاع الطلاب، وعبَّر أحد عناوين «الشروق» عن هذه الحقيقة: «التلامذة يحفظون ماء وجه الداعين إلى العصيان المدنى». نعم كانت هناك مظاهرات، ولكنها كانت تكرارا لما تشهده الساحة السياسية المصرية منذ شهور دون أن يمثل نقلة نوعية فى الفعل الثورى، بالإضافة إلى انتظام العمل فى كافة مرافق الدولة ومصانعها ومصانع القطاع الخاص، ناهيك عما تأكد من أن بعض قطاعات من الأهالى ــ وليس البلطجية ــ قد اعترض على سلوك المتظاهرين تارة بالحوار معهم وأخرى بالعمل على منعهم إلى حد وقوع اشتباكات طفيفة لم تتسم بالعنف.

 

وعلى الرغم من أن عمليات «التقييم السياسى» صعبة ومتضاربة المعايير فى كثير من الأحيان فإن الصورة كانت واضحة هذه المرة، مع أن بعض الداعين إلى العصيان حاول أن يخفف من وقع الاستجابة المحدودة لدعوته بالقول بأن الدعوة نجحت بنسبة 60% (لا أدرى كيف تم التوصل إلى هذه النسبة الدقيقة)، أو أن ما حدث كان بداية سوف تتلوها تطورات أخرى وصولا إلى الهدف المنشود (وهو احتمال ممكن لكن ظنى أن هذه التطورات لن تأتى طالما بقى المشهد السياسى على حاله من الانقسام)، أو أن الدعوة حققت إنجازات مثل تفريق «عصابة طرة» على سجون مختلفة (وهو إنجاز سابق على الاستجابة المحدودة للعصيان)، ولكن غالبية الداعين للعصيان اعترفت بأن ثمة إحجاما عن المشاركة فيه، وأرجعت ذلك إلى التشويه المتعمد للدعوة والتخويف منها (حدث هذا على نحو لا يقارن إبان أحداث الثورة نفسها دون أن تكون له أدنى قدرة على التأثير فى سلوك الجماهير)، وعدم الإجماع بشأنها (وهو أمر كان واضحا قبل الدعوة بكثير فى ظل الانقسام السياسى الراهن)، وعدم ملاءمة التوقيت (وقد اختاره الداعون ولم يُفرَض عليهم).

 

●●●

 

كان يكفى فى تقديرى أن يدرك الداعون إلى العصيان أمرين فحسب لكى يعرفوا سلفا مصير دعوتهم: الأمر الأول أن الانقسام السياسى الراهن فى الساحة المصرية ليس هينا، ويكفى أن تيار «الإسلام السياسى» الذى اكتسح الانتخابات البرلمانية وقف ضد الدعوة، وأما الأمر الثانى فهو تضرر مصالح المواطن العادى من الدعوة وتداعياتها على رزقه اليومى خاصة وأن الضرر مستمر منذ شهور، ومن شأن هذا أن يزيد الفجوة بين قطاع من الثوار وبين مواطنيهم الذين يفترض أنهم سندهم الأول والأخير فيما قد يواجهونه من تحديات.

 

غير أن المسألة الأهم ليست نجاح الدعوة إلى العصيان أو إخفاقها، ففى النهاية لكلٍ من قوى الثورة أن يجتهد وفقا لما يراه صوابا فى تحقيق أهدافها، وأن يتحمل تبعات اجتهاده، وإنما هى الإصرار على اتباع أساليب نضالية ثبت عدم جدواها فى ظل الوضع الراهن. لقد نجحت «مليونية» الثورة فى ثمانية عشر يوما فحسب فى أن تطيح برأس نظام من أعتى نظم الحكم الاستبدادية، لأن كلمة الثوار كانت واحدة، لكن عشرات «المليونيات» اللاحقة التى لم يتعد المشاركون فى بعضها آلافا قليلة أخفقت فى تحقيق أهداف أقل صعوبة بكثير، ولنتذكر المنحنى البيانى الهابط للاستجابة لمطالب «المليونيات» حيث كانت المكاسب فى البداية تتحقق قبل وقوعها تحسبا من السلطات لها، أما الآن فإن الأمور تدور فى أغلب الأحيان فى حلقة مفرغة، خاصة وأن بعض المطالب قد يكون مستحيل التحقيق من خلال إضراب محدود أو اعتصام مؤقت، وبعضها الآخر يتسم بعمومية تجعل الاستجابة الفورية له مستحيلة. ولقد أصبحت أخشى حقيقة من أن ظاهرة الانقسام سوف تلازمنا حتى بعد اكتمال عملية البناء السياسى الجديد من وضعٍ للدستور وانتخابٍ لرئيس الجمهورية، وهو ما يعنى أن التوصل إلى توافق وطنى بخصوص الدستور قد يكون أصعب مما نتصور، وأن انتخاب رئيس الجمهورية الذى قد تتجاوز نسبة فوزه بالكاد حاجز الستين بالمائة ــ إن لم تكتف بأن تزيد عن الخمسين بالمائة بقليل ــ لن يكون العصا السحرية التى يتصورها البعض ويبنى عليها آمالا كبارا فى العبور إلى مستقبل آمن: أولا لأنه من المؤكد أن الدستور سوف يحد من سلطاته، وثانيا لأن أولئك الذين لم ينتخبوه سوف يحيلون حياته جحيما على النحو الذى نشهد بعض ملامحه الآن فى سياقات أخرى، وذلك لأن من الواضح أن الثقافة الديمقراطية الحقة لم تتغلغل فى منظومتنا الفكرية حتى الآن بسبب عقود القهر والاستبداد.

 

●●●

 

أعان الله مصر وقواها الثورية على التوصل إلى الطريق السوى، وأوله قراءة سليمة للواقع، ثم العمل بكل الإخلاص على استعادة وحدة هذه القوى التى استطاعت فى زمن قياسى أن تدشن ثورة عظيمة لابد أن التاريخ سوف يتوقف أمامها طويلا.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية