ماسبيرو زمان - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 3:43 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ماسبيرو زمان

نشر فى : الخميس 16 مارس 2023 - 8:15 م | آخر تحديث : الخميس 16 مارس 2023 - 8:15 م
في مقال الأسبوع الماضي تكلّمتُ عن إحدى حلقات برنامج "نجوم على الأرض" مع يوسف بك وهبي وتقديم ليلى رستم، وقلتُ إن جزءًا من هذه الحلقة كان قد ظهر لي دون تعمّد على صفحة فيسبوك، فلمّا بدأتُ بمشاهدة الجزء جذبني إلى مشاهدة الكل. أما مقال هذا الأسبوع فلقد ذهبتُ إلى مادته عامدةً متعمّدة ولم تأتِ إليّ مادته عن طريق الصدفة البحتة مثل مقال الجمعة الماضية. رحتُ أبحثُ في هذه القناة العظيمة "ماسبيرو زمان" عن لون معيّن من البرامج اختفى تقريبًا أو كاد من على شاشة التلڤزيون- وأعني بذلك البرامج الثقافية. هذا اللون كان يؤدي أكثر من وظيفة، فهو يثير النقاش في قضايا لا تهّم بالتأكيد عموم المشاهدين لكنها تهّم فئة منهم تتابع تطوّر المدارس الأدبية والحركة النقدية والجديد في فنون الرسم والنحت والموسيقى، وإذا كانت ديكتاتورية الأغلبية موضع نظر في العموم فإنها في المجال الذي يتعلّق بتشكيل الوجدان أولى بالمراجعة. ثم أن البرامج الثقافية بحكم طبيعة الضيوف الذين يترددون عليها، كانت تساعد على إجادة اللغة العربية، فالفصاحة مُعدية مثلها مثل الركاكة أيضًا، وإذا ما أراد الواحد منّا مثلًا أن يستعيد جملة وردت على لسان عميد الأدب العربي في أحد البرامج الثقافية، فلاشك أنه سيكررها مثله من حيث مخارج الألفاظ وتشكيل الحروف وسلامة النطق، وهذا مفيد، بل إنه مفيد جدًا.
• • •

بقدر ما سمَح لي الوقت، شاهدتُ أربع حلقات من عدة برامج ثقافية، هي: شريط تسجيل لسلوى حجازي، وكاتب وقصة لسميرة الكيلاني، وسهرة مع فنان لأماني ناشد، وشريط الذكريات لفاروق شوشة. في هذه الحلقات الأربع، كان مفتاح النجاح هو المذيع المثقّف الذي يحسن الإعداد لبرنامجه ويختار ضيوفه بعناية ولا يكرّر نفسه أو يكرّر الآخرين. وبالتالي فعلى الرغم من أن الحلقات الأربع التي شاهدتُها، استضافت اثنتان منها ثروت أباظة، واستضافت اثنتان أخريان يحيي حقي، إلا أن شخصية المذيع وذكاء الأسئلة والقدرة على النفاذ للضيف من زوايا مختلفة، جميعها عوامل جعلَت المشاهد يشعر بأنه إزاء لقاء مع أربعة أدباء وليس مع أديبين اثنين.
• • •

أعطَت سلوى حجازي شريط تسجيل فارغًا للأديب الكبير ثروت أباظة ليملأه بما شاء من فقرات، فكان أن استضاف عدة أشخاص أولهم هو الدكتور حسين فوزي، ودار بين الرجلين حوار ممتع عن تطوّر مسيرة دكتور حسين فوزي من طبيب إلى كاتب قصة قصيرة إلى موسيقار، وحدود ارتباط هذا التطوّر بسؤال أكبر سبق أن عالجه ثروت أباظة في أحد أعماله المسرحية وهو سؤال: هل الإنسان مسيّر أم مخيّر؟. لم تتدخّل سلوى حجازي في مناقشة هذه النقطة وتركَت الأمر لأديب مع أديب، وذلك لأنها كانت لا تعتبر أن دور المذيع هو الثرثرة ومقاطعة الضيوف عمّال على بطّال ليثبت للمشاهد أنه يعرف مع أنه قد لا يعرف. لكن عندما أسرف الدكتور حسين في انتقاد شيوع الأغنية الخفيفة في مصر وقارَن ذلك بتنوّع ألوان الفن الموسيقي في الغرب والشرق معًا، بادرَته سلوى بسؤال: توجد عندنا الموسيقى العربية والأوركسترا السيمفوني، فهل تضعهما على قدم المساواة مع الأغنية الخفيفة؟ ردّ بالنفي، موضحّا أنه يهدف إلى إحداث نوع من التوازن وهنا رفع سقف توقعاته معربًا عن أمله في أن يكون للإذاعة والتلڤزيون أكبر أوركسترا سيمفوني في مصر لتحقيق هذا التوازن والارتفاع بالذوق العام. ابتسَمتُ وأنا أتخيّل ردّ فعل دكتور حسين فوزي فيما لو كان قد امتدّ به العمر ليقارن بين تلڤزيون وأغاني الستينيات التي وصفها بالسطحية وتلڤزيون وأغاني هذه الأيام. وعندما ظهر ثروت أباظة مع المذيعة سميرة الكيلاني فإنه كان مختلفًا تمامًا، ويعود ذلك لطبيعة البرنامج التي كانت تقوم على مناقشة أفكار الكاتب، لكنه يعود أيضًا لتمكّن المذيعة من أدواتها تمكّنًا تامًا. وانظر معي عزيزي القارئ لهذه الدفقة من الأسئلة التي وجهّتها المذيعة لضيفها بعد تمعّنها في تدقيق مشروعه الفكري وإنتاجه الغزير من الروايات والقصص القصيرة. فلقد سألَته سميرة الكيلاني عن منهجه في المزج بين الواقعية والرومانطيقية وإلى أي مدى يعبّر أبطاله عن هذا المزج بين منطلقات كلتّي المدرستين الأدبيتين، فردّ عليها بأن هذا يتوقّف على تعريفنا الرومانطيقية فإن كان يعني الارتفاع إلى مدارج سماوية يصعب وجودها في الحياة فسيكون من المستحيل الجمع بين الرومانطيقية والواقعية، وسألَته عن القضية الرئيسية التي تشغله حين يؤلف فأجابها بأنها الحرية الشخصية والنفسية، وسألَته عن اهتمامه الكبير بجماليات الأسلوب وما إذا كان يشغله ذلك عن الاهتمام بجوهر النص، فقال إن تراثنا قائم على الأسلوب الجمالي فإن اتصلنا بهذا التراث دون انشغال عن بيت القصيد فهذا أمر محمود. إن المذيعة قرأَت لضيفها "شيء من الخوف" و"هارب من الأيام" و"الحياة لنا" و"الضباب"، وربطت ذلك بحدود دور القصة في المجتمع الاشتراكي، أما المحّب لهذا اللون من الثقافة فأظن أنه ما خرج بعد مشاهدته برنامج "كاتب وقصة" إلا وقد شعر بتشبّع تام.
• • •

وقبل أن تلتقي أماني ناشد مع يحيي حقي أحد الأعمدة الأساسية للأدب العربي، كانت قد قرأَت له، وبدا هذا واضحًا من مناقشتها له في أعماله "دماء وطين" و"قنديل أم هاشم" و"أم العواجز" و"فجر القصة المصرية"، وهي الأعمال التي استعرَضتها على مدار البرنامج، لكن هذا لا يمنع أنها ربما تكون قد قرَأَت له أكثر من ذلك. شغلَتها قضية العلاقة بين الشرق والغرب كقضية محورية في المعمار الفكري ليحيي حقي، بحكم أنه أديب نشأ في حي السيدة زينب ثم التحق بالسلك الدبلوماسي (كان يُطلَق عليه السلك السياسي) وخدم في عدة دول أوروبية، وعلى هامش هذه القضية ناقشته في علاقته بالمقامات والمساجد ونزعته للتصوّف. وعندما أجابها يحيي حقي كان يمكن أن نجد تشابهًا كبيرًا بين شخصيته وشخصية الدكتور اسماعيل في "قنديل أم هاشم" الذي درس الطب في ألمانيا لكنه لم يستطع تحدي معتقدات مجاذيب السيدة، ولذلك بدا يحيي حقي في كل ما قال وقد غلَبَت عليه نظرة توفيقية بين الغرب والشرق وبين بعض القيم الموجودة هنا وبعض القيم الموجودة هناك، فإن أنت استمعتَ إليه وهو يتحدَث عن الصعيد كوتّد للثقافة المصرية وحافِظ للتقاليد دون اختلاط كما اختلطت الدلتا بهجرات وأقوام شتّى- حسبته محافظًا منكفئًا على الداخل. لكن إن أنت تابعتَه وهو يشير إلى أن نشأة القصة القصيرة في مصر جاءت على يد طبقة الأفندية القاهريين القارئين للأدب البريطاني والروسي المترجم للإنجليزية- وجدتَه يعيد الفضل للاحتكاك بالغرب في استحداث أحد أهم ألوان الكتابة الأدبية: القصة القصيرة. هذه النقطة سيعود يحيي حقي للاستفاضة فيها مع فاروق شوشة عندما حاوره بعد سنين طويلة وهو في الثمانين من عمره، فأكّد على أن القراءة باللغة الأجنبية هي التي أنجبت القصة المصرية القصيرة، وأن حركة الترجمة عن اللغات الأجنبية أساسية لتطوير اللغة العربية، لأنك حين تترجم لفظًا من لغة غير العربية إليها تفتّش وتنقّب حتى تعثر على المرادف الصحيح. وإذا كانت حلقة فاروق شوشة ركّزت أكثر على الجانب الأدبي في شخصية يحيي حقي واهتمَت بأثر الحركة الوطنية إبان ثورة ١٩١٩ على تشكيل وجدانه، فإن حلقة أماني ناشد وسّعت زاوية النظر لترينا الظُرف الكامن في شخصيته. وانظر معي عزيزي القارئ استهجان أديبنا الكبير للفظ "عوازل" لما فيه من ميوعة وسماجة حتى أنه يعتبره "من أسمج التعبيرات في الأغنية المصرية"، وفي هذا مبالغة بالتأكيد لكنها مبالغة طريفة. أو انظر له وهو يقارن بين "قيافة" عدلي باشا يكن الفرنسية و"قيافة" محمد محمود باشا الإنجليزية و"قيافة" دكتور أحمد لطفي السيد العثمانلية، وعن الدور الذي تلعبه العصا في كلٍ من هذه "القيافات".
• • •

والآن ما العمل؟ هل إن نحن هفونا إلى الجودة- جودة المذيع والضيف والبرنامج ذهبنا إلى ماسبيرو زمان؟ وهل إن نحن بحثنا عن جرعة ثقافية محترمة عدنا إلى الوراء؟ قبل أسابيع قليلة استضاف أحد البرامج كاتبًا شابًا ذائع الصيت وكتبه رائجة، وعندما تحدث هذا الكاتب عن الفارق بين الرواية والقصة القصيرة اشتعلَت معظم وسائل التواصل الاجتماعي بالتهكّم عليه لما شاب كلامه من غرابة. وبينما أصابني هذا الأمر بدهشة لأنه بدا أن الذين يتهكمون على الكاتب الشاب كانوا من الكثرة بحيث يجوز التساؤل: ومَن إذن يقرأ بكثافة أعمال هذا الكاتب؟ فإنني أدرَكت أنه حتى إشعار آخر فإن ماسبيرو زمان هو الحلّ.
نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات