صباح عايدة الطويل - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 7:54 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صباح عايدة الطويل

نشر فى : الثلاثاء 16 أكتوبر 2018 - 11:10 م | آخر تحديث : الثلاثاء 16 أكتوبر 2018 - 11:10 م

استيقظت منهكة ومهمومة. يرتج رأسها وترتعش أحشاؤها بسؤال وحيد، لماذا ذهبت للقاء يحيى بالأمس؟
نظرت إلى يمينها، فلم تجد زوجها فى الفراش.
شعرت بشىء من الارتياح لوحدتها المؤقتة، مثلما شكرت السماء على نومه العميق حين عادت إلى المنزل مساء الأمس. لم تكن تريد أن يراها ودموعها تنهمر صامتة على وسادتها، ولا أن يقترب منها وحواسها تتوسل بعده. هو يعلم خبايا قسمات وجهها ومعانى طبقات صوتها، ولا يفوت حدسه أبدا إدراك طبيعة حالتها النفسية ما إن تستفيق فى الصباح. له دوما نظرة هادئة تفتش على جبهتها عن علامات سعادة أو حزن، تخترق وجهها عبر عينيها لكشف المستور، تستفز لسانها لكى ينطق بكلمات طمأنة متهافتة وتتركه متلعثما لكيلا يفضحها صوتها.
غريب أمر خالد زوجها! يحبها وهو يعلم أنها لا تبادله الحب، لم يظفر بجسدها منذ سنوات وتعلم يقينا أنه لا يبحث عن المتعة بعيدا عنها، يطلعها على تفاصيل عمله وعلاقاته مع الأهل والأصدقاء وتظهر هى عدم اكتراثها بأى شىء لا يتصل بأحوال طفليهما، يحترم خصوصيتها وتستبيح هى الخصوصية لعزلة نفسية وجسدية تهين كيانه كإنسان ووجوده كرجل.
تدرك كل ذلك. تكاد تجزم أنه يعلم عن علاقتها مع يحيى خارج رباط الزوجية، وأنه اختار الصبر علها تعود إليه يوما. ألم تكرر على مسامعه أنها لا تحبه وتريد الانفصال عنه وعن رتابة العيش معه؟ ألم تتهمه بكونه سبب تعاستها وانطفاء جذوة حب الدنيا والجمال والسعادة بداخلها؟ ألم تخبره مرارا بقرب هجرها له وبقبولها لمبدأ الحضانة المشتركة لطفليهما؟ ألم تتراجع محبطة فقط بعد أن تراجع مذعورا من تمنت أن يكون شريكها فى صفحة الحياة الجديدة؟ كان إدراكها لعلم زوجها بعلاقتها الأخرى ولاختياره الصبر على إهانتها له يعفيانها من الإحساس بالذنب تجاهه. هى لم تجبره على التمسك بها، وأبدا لم تر لا فى حبه غير المشروط ولا فى الأمان الذى كان يمنحه لها وللطفلين ما يكفى للاستكانة لرباط زوجية تتمرد عليه كل حواسها.
***
كان حبها ليحيى جارفا. لم يحد من قوته بعدهما المكانى المستمر منذ سنوات، ولم تحل دون تدفقه روابط الزواج التى ألزمت كلا منهما بشريك آخر. ظلت تتمنى العيش برفقته منذ انقضاء لحظات قربهما الأول، يرحل وتنتظره، تتزوج هى وترزق بطفلين وتواصل الانتظار، يأتى إلى مدينتها فتراه ملكها المتوج وتهجر لساعات أو لأيام دنياها ومن لها، يخبرها بقرب زواجه وتعجز عن أن تطلب منه الابتعاد عنها، تعشقه جسدا وروحا وهو يخاطب فيها الأول ويتنكر للثانية كلما ضاقت عليه سبل تهدئة روعها.
جلست على حافة الفراش، لم تقو على النهوض. كانت أصوات خالد وطفليهما تتداخل خارج غرفة نومها، محدثة ضجيج الصباح المعتاد. تناولت هاتفها، وأعادت قراءة الرسائل القليلة المتبادلة بينها وبين يحيى قبل لقاء الأمس. أخبرها قبل أيام بقدومه إلى مدينتها، فاقترحت فورا اللقاء. كان واضحا على غير عادته. أخبرها أنه لم يتعاف من فشل علاقته الأخيرة، ولا يعرف ما إذا كان يريد التورط فى حبها هى الآن أم يحتاج إلى التنقيب داخل جسده وروحه عن أسباب فشله مجددا وعن بقايا الحب الذى كان لرفيقة حياته التى رحلت بعد أن أدمت كل منهما أنانية الآخر. كتب أنه يشتاق دوما إليها، إلى جسدها وفوراتهما معا، إلى الإنصات إلى صوتها محدقا فى عينيها باهرتى الضياء، إلى تجاذب أطراف الحديث معها حول عملها والأطفال الذين تعالجهم فى مصحتها النفسية. إلا أن اشتياقه هو اشتياق العشيق والصديق، لا شوق المحبين أو لهفة العاشقين.
خيرها بين لقاء فى منزله وبين الذهاب معا إلى متحف الفن الحديث الذى شهد مقهاه على الكثير من أحاديثهما فى الماضى وبين عدم اللقاء إن كان رفضه التورط فى حبها يؤلمها. هى من اختارت القدوم إلى محل إقامته، كانت رغبة الارتماء فى أحضانه تفتك بها واحتياج جسدها وروحها إليه أقوى من ذاكرة الألم التى ألحقها بها الاستعلاء على حبها. لم يتعامل أبدا بجدية مع رغبتها هجر خالد الذى كانت قد تعرفت عليها أثناء دراستها لماجستير علم النفس فى جامعة أوروبية عريقة وبعد أن أبعدها هو عنه للمرة الأولى. وعندما عادت إلى مدينتها، لم تستجب لطلب خالد الزواج منها وماطلته طويلا منتظرة بادرة أمل من يحيى الذى أوغل فى التجاهل والصمت والقسوة والاستعلاء على حبها حتى انهارت مقاومتها وقبلت الزواج ورزقت بطفليها. وحين تجدد اللقاء بعد سنوات، عادت إلى أحضانه كأن يوما فى حياتها لم يمر دون التمسك بحبه. تجاوزت خوفها من قسوته الشخصية ومن المصائر القاسية للعلاقات خارج رباط الزوجية، لم تشعر بالندم تجاه خالد فهجر حواسها له كان أسبق على تجدد اللقاء. عرضت على يحيى دوما العيش معا، وامتلكت إرادة حقيقية للملمة أشلاء حياته التعيسة وحياتها فى مكان تخلقه لهما ويتسع لطفليها ولأطفاله.
***

كانت تراه يستمع إليها، وعيناه تارة تخبرانها أنه يدرك مقدار حبها لها وتارة أخرى تعتذران منها لكونه لا يريد أن يضع نقطة النهاية على علاقته التى كانت ملامح فشلها بادية لها. فهمت أن الخوف كان يكبله. كانت ترى تعاسته وضعفه ومحاولاته البائسة إنكار حتمية الفشل، وتشفق عليه وتتمنى تعويضه بمعين حبها المتدفق. أرادته لها، أرادته لحبها، أرادت أن تزهو بآثار فورات جسديهما لا أن تتخوف من أن يراها زوجها. كانت تبكى لليال متتالية، كلما تركها ترحل. كانت تهجر فراش الزوجية وتلقى بجسدها المنهك بجوار صغيرتها الحنون، كلما أعادها خوف يحيى من البدايات الجديدة إلى منزل زوج لم تعد تطيقه. فى الشتاء الماضى، صرخت فى وجهه قائلة إنه لا يدرك ماذا يفعل بجسدها وروحها ما إن تنقضى لحظات القرب ويعاود الرحيل. صارحته أن قدرتها على مواصلة الحياة تنهار. خيرته باكية بين أن يضمها إليه أو يدعها وحالها ويلتفت هو إلى علاقته التى كانت. تتذكر انسحابه الصامت كعادته، وسطوة حبها له التى أجبرتها على إسقاط تخييره بين العيش معها أو بعيدا عنها وألزمتها طلب اللقاء.
ذهبت إليه، ارتمت فى أحضانه، استسلمت لأنفاسه ولمساته وهى تحيى جسدها وروحها للحظات كانت تعلم أنها لن تمنعه من أن يتركها ترحل. لم تخفف من آلامها كلماته عن العلاج النفسى الذى شرع به وعن إصراره على معرفة أسباب فشل علاقته السابقة، وأغضبتها جمله غير المفهومة عن بقايا الحب الذى كان لمن هجرته. صمتت، انتظرت نهاية حديثه، انصرفت مستسلمة مجددا لأقدار حبها الجارف لرجل لا يعرف عن القرب والعشق والحياة سوى القشور. تدرك كمعالجة نفسية كونه لن يتجاوز خوفه الحقيقى من الاستسلام الكامل للحب وسيواصل البحث عن علاقات غير كاملة لا تواجهه بخطر فقدان السيطرة على كيانه. كانت تشفق عليه، وتشفق على أقدارهما وأقدار من يدورون فى فلكيهما. عادت إلى المنزل، حال نوم طفليها فى فراش واحد دون أن ترقد بجوار صغيرتها، تسللت إلى غرفتها وأراحها نوم خالد العميق.
***
كانت مازالت جالسة على حافة الفراش، حين دخل عليها خالد. طبع قبلة سريعة على جبهتها. قال إنه شعر بأرقها طوال الليل، ورغب فى تمكينها من الراحة بينما هو يجهز الطفلين لبداية اليوم ويستعد له هو أيضا، وتمنى أن تكون بخير. شكرته بابتسامة خاطفة، وتلعثم لسانها وهو يردد كلمات الطمأنة المتهافتة. أبعدت وجهها عن عينيه بنهوض سريع، واندفاع أسرع للخروج من الغرفة متحججة بضرورة توديع الطفلين قبل مغادرتهما المنزل. كان جسدها يوليه ظهره، ويستحلفه عن بعد ألا يقترب منها. ولسانها يتلعثم مجددا فى جملة النهاية النمطية لكل صباح، متى تعودون اليوم؟ ألقتها على ثلاثتهم، وانسحبت غير عابئة بإجابات تعرفها مسبقا.

أستاذ علوم سياسية وباحث فى جامعة ستانفورد
الاقتباس
غريب أمر خالد زوجها! يحبها وهو يعلم أنها لا تبادله الحب، لم يظفر بجسدها منذ سنوات وتعلم يقينا أنه لا يبحث عن المتعة بعيدا عنها، يطلعها على تفاصيل عمله وعلاقاته مع الأهل والأصدقاء وتظهر هى عدم اكتراثها بأى شىء لا يتصل بأحوال طفليهما.

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات