أحلام معذورة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 9:02 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أحلام معذورة

نشر فى : الجمعة 16 نوفمبر 2018 - 11:00 م | آخر تحديث : الجمعة 16 نوفمبر 2018 - 11:00 م

كان اليوم مُشرقًا، والهواء مُنعشًا، والنشاط يدبُّ في الأرجاء، والناسُ لا ينفكون يتحركون في كُلّ مكان، يغترفون الرزقَ الوفير، ويلهثون مِن فرط السعادة والامتنان.
***
تنقَّلَت تعرض بضاعتها على أصحاب المتاجر والمحلات، تحمل على ظهرها حقيبةً، ومِن كل يدٍ تتدلى اثنتان، تعقد اتفاقًا مرة، ويخزلها الحظُّ مرات، يرهق جسدها السير المُتواصل، وتنهكها كثرةُ المُساومات؛ لكنها لا تتوقف عن الدوران. تنتعل حذاءً مِن المطاط، وتناور آلام الكعب والشقوقَ السارحة في الجلد؛ مُتحليةً بالأمل، مَجبولةً على التحمَل والصبر. تخرج ظهيرةَ كُلَّ يوم وتعود في الليل، تتناول وجبةً خارج البيت، وأخرى قبل النوم، ثم تُحصي ما حَصَدَت وتَحسَب ما صَرفت، وتأمل خيرًا فيما يدَّخر الغيب.

***
تمهَّلت في الخطو وهي تقضم مِن السندوتش قضمة، ثم أخذت جانبًا مِن الرصيف وأنزلت حمولها، وأتبعت الخبزَ ببصلة. أتت على نصف الرغيف، وتركت قطعة المخلل الأخرى. كانت تمضغ في سرعة كي تستأنف الجولة؛ إذ لا تزال أمامها محلَّات عدة، قد تنال مِنها فرصة.
***
استعادت إيقاعَ مشيتها بعد راحة الأكل القصيرة، وانطلقت في حماسةٍ وعزيمةٍ؛ لكنها شعرت بعد دقائق بثِقلٍ في مصرانها وبانقباضات تعتصر أحشاءَها. تحاملَت على نفسها وواصلت السير، لكن الوجعَ تصاعد واشتدَّ، إلى أن أنذرتها أمعاؤها بضرورة البحث عن دورة مياه في التو. ***
على باب مَطعمٍ شهير؛ سألت خافضة صوتها إن كان في الإمكان دخول الحمام، فأجاب العامل بنبرة جافةٍ حازمة: "للزبائن فقط". فكرت أن تستعطفه وأن تبحث عن عذر يقبله، لكن تقطيبة ملامحه صدت أفكارها. ثمَّة أمكنةُ أخرى قد تسمح لها بإراحة أحشائها، لكن أقربها بعيد، وقد تعذرت عليها الهرولة، كما أن القذارة التي تسم أغلب الحمامات العامة، لا يمكن التغاضي عنها ولا التعامل معها. تلفتت حولها فلم تعثر في الأفق على ملاذ. تأزم الموقف وأصاب الشلل عقلها، فقررت في لحظة عجز أن تقطع رحلتها في منتصفها، وتؤوب إلى البيت؛ سيضيع عليها اليوم بلا ذنب.
***
دسَّت المفتاح في الباب وهي على حافة الانهيار، قطعت طريقها إلى دورة المياه في قفزة سريعة، وبينما تصفق البابَ خلفها؛ خطفت مجلةً وجريدة. قلَّبت الصفحاتِ بلا اهتمام، لكن يدها تسمَّرت فجأة، وانفتح فمُها غير مُصدقة ما ترى؛ كان هناك رجلٌ وسيمٌ يتطلَّع إليها مُمسِكًا بلفَّة مناديل وفرشاه تنظيف، مبتسمًا ابتسامة عريضة. فهمت أنه ترك أعماله الخاصة رغم نجاحها، وقرر أن يعطي وقته لتحسين دورات المياه العامة في بلده سنغافورة؛ وتطويرها. أسَّسَ جمعية أسماها "بيت الراحة"، مُهمتها الأولى رفع مستوى الحمامات، ولدهشتها الغامرة، اكتشفت أن هذا الرجل العظيم الذي سكن على الفور قلبها، قد أنشأ كلية يلتحق بها الطلاب، ليدرسوا علومًا متخصصة في دورات المياه؛ يتدربون على أعمال النظافة والصيانة كما ينبغي أن تكون، ويتعلمون أساليب مكافحة السلوكيات الخاطئة، ويحصلون في نهاية سنوات الدراسة على شهادة مُعتمَدة مِن "كلية دورة المياه العالمية" المُعترَف بها دوليًا، والتي يطرقها طلابٌ مِن عديد البلدان.
***
قلبت معذورة الصفحة وقد زالت تقلُّصاتها، فيما ازداد شغفها وسرورها. نصفُ سكان العالم تقريبًا لا يملكون دورة مياه ملائمة، الميكروبات المُسببة للأمراض تنتقل عبر الذباب الذي يجد في الدورات القذرة مرتعًا خصبًا ينهل مِن طفيلياته، ثم يحطُّ في كل مكان تاركًا آثاره، دون أن يميز بين ثريّ وفقير. راقها التعبير؛ فهزت رأسها في استحسان، وغمرها الرضاءُ حين وجدت ضِمن الإنجازات، برنامجًا أسَّسه الرجلُ ليخاطب الصغار قبل سنّ المدرسة؛ برنامج "الحمامات السعيدة".
***
اكتشفت بين الفقرات مراحيضَ جافةً لا تستخدم المياه، وأخرى تُنتِج سمادًا عضويًا، وثالثة توَلّد الكهرباءَ وتُعيد إدارةَ المياه النقية. لم تستوعب التكنولوجيا العلمية وراء هذه المُخترعات المبهرة، ولا استوعبت كيف تحقَّقت المُعجزة؛ لكنها لحظت أسماءَ بلدان، ظنتها لا تضع الحمامات على رأس الأولويات، ولا تدرجها في قائمة الاهتمامات؛ صادفت غانا ونيجيريا على سبيل المثال، كما مرت بكمبوديا والهند، وأدركت أن جميعها يشارك في يوم عالميّ، يَحِلُّ في نوفمبر مِن كُلِّ عام، ويُخَصَّص للاحتفاء بالحمامات. اختتمت الجولة المُثيرة بمُطالعة الجوائز التي نالتها مراكز أبحاث في كندا وبريطانيا واليابان، نتاج إسهاماتها المتميزة في ذاك المضمار، وأياديها البيضاء على دورات المياه؛ التي يستخدمها عموم الناس.

***
غادرت معذورة بيت الراحة، لكن أحلام اليقظة لم تغادرها. تراءت لها في ميدان عام، دورةُ مياه شامخة، يفوح منها أريجُ الورود، وتنبعث مِن أرضيتها الجافّة نسماتُ الفينيك والكلور، فيما الناس يفدون إليها في سلام، لا يكتنفهم حرج الرفض، ولا يتكبدون مَشقَّةً أو يُضطَرُّون لانتحال أعذار. أحلام معذورة.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات