عن الديمقراطية وقمتها.. عودٌ على بدء - حامد الجرف - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 11:53 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن الديمقراطية وقمتها.. عودٌ على بدء

نشر فى : الخميس 16 ديسمبر 2021 - 9:05 م | آخر تحديث : الخميس 16 ديسمبر 2021 - 9:05 م

 

بمناسبة ما انعقد من قمة افتراضية يومى 9 و10 الماضيين، نشرت الشروق مقالين هامين للأستاذ بشير عبدالفتاح والدكتور على فخرو، وإذ حمل ثانيهما على الولايات المتحدة رفعها لواء النيوليبرالية بما أفضى لتكدس الثروة فى أيدى القلة، ومن ثم ازدياد تأثيرها السياسى، موضحا خطايا الديمقراطيات الغربية بما لا يؤهل قادتها للتبشير بها أو لوعظ غيرهم عنها، ذهب الأستاذ بشير عبدالفتاح بعد بيانه لبواعث الدعوة للمؤتمر ولرد الفعل عليها ممن استبعدوا منها، لاستعراض مسيرة التحول الديمقراطى، والممايزة بين نوعى التجارب الديمقراطية وبيان زيادة معدل الدول المنزلقة للاستبداد، وخصوصية التجربة الهندية وانجرافها لديمقراطية إثنية، وللحظة تراجع الديمقراطية الأمريكية فى عهد ترامب، مبينا للتأثيرات السلبية للعولمة وما أفضت إليه من ديكتاتورية رقمية، صورت الشعب وكأنه عدو للديمقراطية.
ويبدو أننا بحاجة لشىء من الهيرمينوطيقا تأويلا وفهما لواقع الديمقراطية المعاصر، ولتحرير الالتباسات التى وردت بهذين المقالين.
ولعل نقطة البدء الصحيحة أن نسلم معا بأن التجارب الديمقراطية لا تُقيَّم بنظرة معيارية مجردة، وإنما تقيَّم وفق ما هو قائم من تفاعلاتها وبالقياس للمبدأ الديمقراطى، تحريا لمدى اقترابها من جوهره، وفق ما تدل عليه آلياتها وممارساتها العملياتية ووفق الواقع المعيش، لا وفق القواعد المكتوبة أو أى تصور بروكرستى قولبى محدد سلفا. قياسا لمدى ديمقراطية أى تجربة بمدى اقترابها الصادق من تجليات المبدأ الديمقراطى، وبمدى بعدها عن تنويعات الاستحواذ الأوليجارشى أو صور الحكم الشمولى، وصور المحاصصة الفئوية أو الإثنية أو الأيديولوجية أو المؤسساتية.
•••
لا شك أن الديمقراطية تقتضى ــ إذا صحت ــ وعلى وجه الوجوب واللزوم تأسيس بنيتها التحتية ودعمها المستمر، والتى لا تتشكل من الأحكام القاعدية فى الدساتير والمواثيق بقدر تشكلها فى الأعراف المستقرة للممارسة وآليات الحياة اليومية، بدءًا من نظم التعليم الديكارتى اللا تلقينى، ومرورا بانفتاح أقنية الاتصال الجماهيرى بغير حجر على رأى أو إبداع، وإشاعة لقيم المجتمع المفتوح قبولا للآخر وتسامحا مع الاختلاف، طالما ارتضى الجميع بالديمقراطية وقبلوا بها واحتكموا للدستور والقانون.
وعليه، فإن الديمقراطية ليست بنى ومؤسسات بقدر ما هى فى الأساس منهج حياة وآليات تنشئة وثقافة وسلوك وآداب، وبغير تلك البنية التحتية التى تشكل مستندا للمبدأ الديمقراطى بحسبانه الكوكب الدرى الذى يشع نوره على كل التجارب التى تأخذ عنه، لا تكن ثمة قيمة لأية هياكل أو أبنية أو أحكام قاعدية تتخذ من الديمقراطية اسما ونسبا. ومن هنا كانت أزمة المجتمعات التى تعتمد ديمقراطية استتمام الشكل بينما تَجِّد ــ وعلى النقيض ــ فى المضى قُدما فى الطريق المناهض لجوهر المبدأ.
فالاستحواذ أو الاقتران أو عدم الفصل (وهى درجات متدرجة) بين مصادر السلطة والنفوذ والتأثير فى ديمقراطيات الغرب وغيرها من التجارب الديمقراطية، بدأ يفقدها شبابها ويدخلها فى زمن الشيخوخة والهّرَم إذ أصبح للمال السياسى نفوذ لا يقاوم فى اصطناع الأبنية، والاستحواذ على منصات التأثير وماكينات صناعة الرأى العام، وتشكيلات الأحزاب والنقابات، بما مكن للأنظمة الشمولية التقليدية سبيل اختراق ديمقراطيات عريقة، وجذبها للتماهى معها، ولذلك باتت الديمقراطية فى أزمة، لا ترتد لصواب مبدأ الحرية السياسية ولا لأصالة المبدأ الديمقراطى، بقدر ما ترتد لعدم التوازن فى بنية التجارب الليبرالية بين دعامتيها الأساسيتين وأعنى مبدأى النفعية أو الحرية الاقتصادية، والحرية السياسية من جانب آخر، باعتبارها الضامن لحرية الإنسان كهبة للخالق العظيم لكل البشر، إذ هى ليست ممنوحة من أحد، أو مرهونة بشرط سابق عليها، وبطلاقة العقل الإنسانى وقدرته على تحديد مصير البشر دون كهنوت، أو ادعاء عصمة، أو تصور لحكمة مطلقة تصادر عليه.
الأمر الذى إن تحقق تنتفى معه كل صور الطغيان بما فيها طغيان الثقافة السائدة، وطغيان الأغلبية ذاتها، وذلك بإقامة الحدود التى تقف عندها سلطة الجماعة فى مواجهة الفرد، بما يعصم دمه، ويحمى حريته، ويصون كرامته.
•••
إذا كانت الأنظمة الشمولية شبه القطبية، قد تمكنت من اختراق الديمقراطية الأمريكية فى حقبة ترامب، وفى إجراءات نقل السلطة من بعده، فلا ينبغى أن نتناسى أن تلك الديمقراطية ذاتها هى من صححت مسارها وحفظت توازنها، وبذلك تضحى تلك اللحظة الاستثنائية شهادة للديمقراطية وحجة لها لا عليها.
ومن هنا تأتى أهمية قمة الديمقراطية، التى باتت تتحصن فى خندق دفاعى ينبغى عليها أن تعمل على تجاوزه، ومن هنا أيضا خطورة المقالين اللذين اعتمدا مغالطتين منطقيتين صرفا للانتباه عن أهمية المؤتمر والمناداة بدوريته، وبإيجاد آلية لمراجعة النظراء منبثقة عنه إلى إهالة التراب عليه تركيزا على خطايا الديمقراطيات الغربية باللمز واعتمادا لتكتيك قلب المائدة، إذ يعتبرا أن تلك الديمقراطيات غير مؤهلة لوعظ غيرها أو لإرشادها.
الأمر الذى يؤكد اعتماد المقالين على مغالطة الرنجة الحمراء (ARINGA ROSA) ــ هى مغالطة منطقية تتمثل بعرض بيانات أو موضوعات جاذبة خارج الموضوع لتشتيت الانتباه عن الموضوع الأصلى (المحرر) ــ والحيدة عن المطلوب معا، وهو أمر خطير بالنسبة لمنطقتنا العربية تحديدا التى ما فتئت تناضل من أجل تأسيس أنموذجا لدولة مدنية حديثة.
وإذا كان الاستبداد بمظهر ديمقراطى كما هو حال ما تكاد تنجرف إليه التجربة الهندية ونظم أخرى غيرها يبدو مقلقا، فإن دعم منظمات المجتمع المدنى والعمل الحزبى واضطلاع النخبة بدورها التنويرى مع مثل ذلك المؤتمر خاصة إن اتخذ طابع الدورية وانبثقت عنه آلية لمراجعة النظراء يكن الكل فيها واعظا ومهتديا معا، يمكن أن يسهم فى إخراج الديمقراطية من خندقها الدفاعى.
ولا شك أن الإنسانية تواجه وللعقود الثلاثة القادمة ثلاثة اختبارات وجودية غير مسبوقة تتمثل فى (1) لجم التغير المناخى (2) ونزع أسلحة الدمار الشامل وليس فقط حظر انتشارها (3) ودعم التحول الديمقراطى وتصويب مسارات تجاربة الوطنية ومحاولة مفرطة النظام الدولى بما فيها جهود إصلاح الأمم المتحدة.
إذ لا يمكن للإنسانية أن تستمر حياتها على الكوكب، وبيتها يحترق، أو والسيوف مشرعة على رقابها، أو فى غيبة تمكين لحرية الإنسان ولحقه الأولى فى المشاركة فى صياغة حياته وتقرير مصيره. ولذلك فإن أى كتابات تثبيطية للجهود المبذولة على تلك المحاور الثلاثة تمثل ولو بغير قصد تخليا من النخبة عن دورها التنويرى الذى هو علة وجودها وغاية جهدها.

حامد الجرف قاضٍ مصري سابق
التعليقات