الإنسان وأحواله فى زمن البيوتكنولوجيا - العالم يفكر - بوابة الشروق
الأربعاء 16 أكتوبر 2024 12:18 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الإنسان وأحواله فى زمن البيوتكنولوجيا

نشر فى : الثلاثاء 17 سبتمبر 2024 - 6:40 م | آخر تحديث : الثلاثاء 17 سبتمبر 2024 - 6:40 م

تطمح ثورة البيوتكنولوجيا إلى الإنسان «المستزاد»، كما يقول المفكر المغربى محمد سبيلا، عبر تقنيات السعادة وإطالة العمر، وإصلاح الأعضاء التالفة وتعويضها بأخرى أو تدويرها، وصولا إلى تحسين مرحلة الشيخوخة. تخليق عضوى وعصبى، يشمل الجانب النفسى، بل وحتى الإبداعى الثقافى، بواسطة شريحة تُزرع فى الدماغ. هذا الموضوع شائك ومعقد، لأنه يتجاوز الحدود العقلية والموضوعية والأخلاقية والشرط البيولوجى. هناك معارضون لذلك، بينما يعكف آخرون على تطويره وفرضه كأمر واقع منذ 60 عاما.

الموجودات الأخرى من البحار والأشجار هى بدورها قابلة بل ومستجيبة للتقنية، مثل مرونة الأشجار فى مقاومة العواصف، وتقنية المد والجزر، وأثرها الفيزيائى على العالم الذى يستمر ويتطور بالتقنية، وهى وجود كامل متأصل بحسب هايدغر؛ أى منظومة تشمل الأخلاق والعواطف والتربية والعلم والأدب. تخدم البيوتكنولوجيا القضايا الأمنية والعسكرية أيضا بزراعة شريحة أو تهجينها، تتحكم بكود البطاقات البنكية وكلمات المرور لمواقع التواصل الاجتماعى، والتعقب الجغرافى المكانى، فضلا عن إشعال المصابيح وأجهزة التبريد، والاستماع إلى الموسيقى واستجلاب المناظر السعيدة.

نعم، يمكن تثوير وظائف الجسد البيولوجية والحسية ولكن فى حدود قبول إنسانيته بوسائل السعادة والبقاء المضافة إليه. ما فائدة التكنولوجيا بمعزل عن «الأخلاق» والمشاعر والوفاء والعهود؟ أى عدم السماح بمجاوزة البشر. لم يعد الطب علاجا فحسب، بل ممارسة تسمح بالإضافة العضوية، وإطالة الشباب والعمر، وزيادة كفاءة الأعضاء عبر أنسنة الوسائل والأدوات، ذلك مقبول «أخلاقيا» نوعا ما على الرغم من التحفظات والاعتراضات.

نظرية «التفرد»: إنسان ما بعد الإنسان

هل البيولوجيا والتقنية عدوان أم صديقان؟

تطورت سريعا ثورة البيوتكنولوجيا بعد أزمة كورونا التى فضحت التقصير العلمى التقنى حينذاك فى مقاومة الأوبئة والفيروسات، كما أعلنت فى الجانب الآخر هشاشة البشر وعجزهم عن المقاومة، فتغير مسار البحث العلمى نحو نظرية «التفرد»: إنسان ما بعد الإنسان، أى الهندسة الوراثية، تكنولوجيا زراعة الأجسام الإلكترونية فى الجسد، الذكاء الصناعى، تكنولوجيا النانو (الأجهزة بالغة الدقة) وصولا إلى علم التحكم الذاتى بحسب ريموند كيرزويل فى كتابيه «التفرد قريبا»، و«عصر الآلات الروحية»:

لن يكون ثمة أى فرق ما بين الإنسان والآلة أو بين الواقع.. والواقع الافتراضى. هكذا، سنصادف الزواج والعلاقات الاجتماعية الافتراضية ورأس المال الافتراضى أيضا.

الجسد فى أُفق «ما بعد الحداثة»

ثمة من يشير إلى خطة عمل مبيتة أصلا لتجريد البشر من إنسانيتهم وعواطفهم، وتسهيل القبول بالرداءة فى كل شىء، والموافقة على التحلل الأخلاقى والعائلى، وصنع الحروب والأزمات المالية والتشجيع على الهجرات والتنكر للهويات الوطنية، بمعنى بلورة مشروع كامل لتفتيت الإنسان، كى يقبل بمفهوم ما بعد إنسانيته؛ فهل نحن إزاء إنسانية جديدة وتقنية جديدة؟ بمعنى «وجود» تقنى شامل، يُضعف «إنساننا» وتندحر معه إنسانيته، فيصير وجودنا الرافض للـ «التفرد»، سلفيا عضويا، من حيث الدماغ والقلب والشرايين، بل من حيث الأحلام والإبداع؟!

يقول ماكس مور «تعمل الإنسانية الانتقالية على توسيع دلالة الإنسان عبر مجاوزة الحدود الإنسانية عن طريق وسائل العلم والتكنولوجيا اللذين تحدوهما روح الفكر النقدى الخلاق»؛ أى انتقل الجسد الإنسانى من شرطه التقليدى، إلى أُفق ما بعد الحداثة.

هل الأخلاق هى التفرد ذاته، أم التقنية بوصفها أخلاقا جديدة؟

استأثر موضوع البيوتكنولوجيا باهتمام الفلاسفة والمفكرين، إذ لا تخلو مختبرات البحث العلمى من خلية عمل تضم الفلاسفة المنظرين لهذه الثورة، فضلا عن الفنانين وهم يعكفون على تصاميم للأعضاء البشرية فى حلتها الجديدة، أى التخطيط لمستقبل يعتمد على الصناعات البيولوجية الرقمية وصولا إلى اقتصادات التقنيات البيولوجية والحربية؛ جنود شجعان لا يخافون الموت، من خلال زرع شريحة فى أجسادهم. بينما لا يوجد للأسف أى اهتمام علمى أو فلسفى أو أدبى عربى بهذا الموضوع (تعد أوروبا متخلفة فى البحث البيوتكنولوجى مقارنة بأمريكا والصين). يقول أستاذ الفلسفة والباحث فى الجماليات محمد الشيكر «تجاوز خطاب الإنسانية المتعدية الحديث عن إنسان جديد مزيد عبر الوساطات التكنولوجية، إلى التطلع لإنقاذ الإنسان وخلاصه من شرطه البيولوجى القائم». إن فلسفات «ما بعد الحداثة»، ما انفكت تصدع، منذ عقود خلت، ببزوغ إنسان جديد ينصب نفسه كقوة بروميثيوسية مائزة، وكذات مُنتجة للمعنى، صانعة لممكنات الوجود وفاعلة فى أحداث التاريخ وصروفه، إلا أن فكر «ما بعد الحداثة» انصرف من جهته إلى إعلان أفول هذه السردية الحداثية، ونعى نهاية هذه الميثولوجيا الإنسية التى تنهض على ما يسمه ميشال سير «برعب كل أنطولوجية ممكنة».

لا غنى عن البيوتكنولوجيا لمستقبل الإنسان ورفاهيته، إذ تطور الطب النموذجى العلاجى إلى ما يسمى بالطب الاستزادى بفعل التقنية ــ الزمن، هكذا، نشاهد الإضافات على النوع البشرى، فيما يخص الهندسة الجينية، وتحسين النسل عضويا، وتقوية الذاكرة، وإطالة عُمر الإنسان أيضا، وسوف نشاهد مستقبلا محلات قطع غيار للأعضاء البشرية، وخلية إلكترونية لتوليد مشاعر السعادة، مُحاكاةً للهواتف النقالة والحواسيب، واليو إس بى.

دماغ الإنسان متجاوزا حدوده التقنية

يقول الفيلسوف الألمانى سلوتردايك: «تطمح الأنثربولوجيا التكنولوجية إلى بلوغ مرحلة التخطيط الظاهر للخصائص كافة التى يمكن للإنسانية أن تستوفيها. فهل يترتب عن ذلك، أن الإنسانية، بمكنتها أن تحقق على صعيد النوع نقلة من جبرية الولادة إلى ولادة اختيارية وإلى انتقاء قبل الولادة؟»؛ وهذا ما أنجزه العلم راهنا ونتعايش معه يوميا فى تجارب تحسين النسل والتلاقح الجينى، كما نراه على صعيد البيولوجيا الزراعية والأغذية المعدلة وراثيا.

يعد تطوير الدماغ بما نسميه الدماغ المعزز أو المستزاد، أخطر مرحلة فى الثورة البيوتكنولوجية التى تسمح بتطوير أعضاء الجسم الأخرى بسهولة، بقدر نجاح أو فشل تلك التجربة. يقول البروفسور الروسى ألكسندر كابلان، مؤسس ومدير مختبر الفيزيولوجيا العصبية والواجهات العصبية الحاسوبية فى جامعة موسكو ما مفاده:

الدماغ قوة استثنائية هائلة، لا تضاهيها أعظم الكمبيوترات وأكبرها، وهو لا يحتاج إلى تطوير، أو تعزيز لقدراته. لكن وسائل التواصل الاجتماعى والكومبيوتر ووسائل الإعلام أسهمت فى تحجيم عمل الدماغ، وذلك بجعله يتكيف مع الرداءة والسهولة وعدم التفكير والبحث، ولا يستعمل طاقته الفعلية فى التفكير والإبداع.

إذا، الحلول الجاهزة ووسائل الإلهاء تضعف التفكير وتجعل الإنسان هشا بيولوجيا، وغير مستغل لطاقاته. وهكذا، يستنتج كيرزويل عدم استطاعة الإنسان مستقبلا، وبحدود العام 2045، التعامل مع بيئته، بسبب عجز قدراته العقلية، اللهم إلا من خلال التدعيم الرقمى البيوتكنولوجى.

البيوتكنولوجيا فى سيرة يوتوبية

لم ينفك الإنسان عن العمل على تطوير إمكانياته العقلية والعضوية وخياله، متخطيا شروطه القدرية، فاستعمل جناحين للطيران كما فى تجربة العالم العربى عباس بن فرناس، وقبل ذلك، انشغلت الأساطير بتعزيز مفهوم الإنسان السوبر، و«ملحمة جلجامش» والبحث عن الخلود بيولوجيا، وحكايات «ألف ليلة وليلة»، ثم قصص «علاء الدين والمصباح السحرى»، وبساط الريح، كما عملت السينما على تعزيز حلم الإنسان الخارق. فضلا عن كيمياء تحويل المعادن إلى ذهب اقتفاء للحديث القدسى: «يا ابن آدم أنا غنى لا أفتقر أطعنى فى ما أمرتك أجعلك غنيا لا تفتقر، يا ابن آدم أنا حى لا أموت أطعنى فى ما أمرتك أجعلك حيا لا تموت، يا ابن آدم أنا أقول للشىء كن فيكون ــ أطعنى فى ما أمرتك أجعلك تقول لشىء كن فيكون».

على البزّاز

مؤسسة الفكر العربى

النص الأصلى

التعليقات