مكانى المتنقل الدائم - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 8:19 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مكانى المتنقل الدائم

نشر فى : الأربعاء 18 سبتمبر 2019 - 7:45 م | آخر تحديث : الأربعاء 18 سبتمبر 2019 - 7:45 م

فرضت قراراتى المهنية والشخصية إلى حد ما علىّ التنقل وبدء حياة جديدة كل بضع سنوات، حتى أننى أضحك أحيانا حين أتخيل نفسى كالحلزون الذى يحمل قوقعته على ظهره، فأنا أيضا أحمل بيتى أو بالأحرى محتواه من مكان إلى مكان وأعيد فرش أشيائى فى بيئتها الجديدة كل مرة.
***
أتعلق بكل بيت أعيش فيه وكأنه بيتى الأبدى، أرص أشيائى على الأرفف بعد دراسة طويلة أجريها حول تعلقى بالأشياء وحاجتى إلى الوصول إليها ورغبتى فى تحريكها بسهولة واعتبارات أخرى أخترعها كجزء من لعبة ذهنية تساعدنى على إسكات حنينى إلى مكان أشيائى السابق فى بلد آخر. أعلق لوحة على الحائط، هذا عاشر حائط تعيش عليه اللوحة، فهى، كما أنا، تتعرف على بيتها العاشر. تزوجت وأنجبت طفلا بعد الآخر بين عدة بلدان وبيوت، وتغيرت علاقتى بالأماكن بحسب تغير احتياج عائلتى التى كبرت أثناء تنقلى الدائم.
***
فى البدايات الجديدة عامل إثارة منعش بالنسبة لى، تماما كما فى الرحيل مخزون من الحزن أشبه بالموت، موت مرحلة وولادة مرحلة جديدة معا، شعور متقلب ينتقل بى من مجلس عزاء إلى حفل مباركة بمولود. هناك لعبة كثيرا ما تتواجد فى حدائق الأطفال هى «سيسو»، فيها طرفان يجلس عليهما طفلان يتبادلان المواقع فيعلو أحدهما بينما يهبط الآخر، ثم يرتفع الثانى وينخفض الأول. هذه حالتى تماما عند الانتقال من بلد إلى بلد، ينفتح قلبى على سماء جديدة كطائرة من الورق الملون تحملها الريح فوق المبانى الجديدة لكنها تقع وترتطم بجدار لا تعرفه فى شارع غريب حين تهدأ الريح.
***
العلاقة بالمكان موضوع نقاشات طويلة ومعقدة خصوصا حين يرتبط بسرديات الحرب والتهجير والهروب من الموت كما حدث فى سنوات النزوح الجماعية الأخيرة، وزاد على التعقيد أنه وفى ظل التهجير والانسلاخ القسرى عن المكان، عادت إلى الواجهة النقاشات المتعلقة بحرية الحركة، أو بالأحرى النقاش حول فرض بعض البلاد قيودا جديدة وغير منصفة، فى نظر الكثيرين، على إمكانية الحركة بين البلاد، واحتدت النقاشات بين مؤيد لحرية التنقل والحركة مقرونة بشروط لا بد منها، وبين معارض لها على الأغلب لأسباب جلها مبنى على أساس الخوف من الآخر والتفرقة غير المنصفة بين من يحق له التنقل ومن لا يستحقه، بحسب المعارضين لتلك الحرية.
***
بعيدا عن الجانب السياسى والحقوقى والعامل الاقتصادى للسفر والحركة والنزوح، ما يبقى بعد النقاشات المحتدمة بالنسبة لى هو العامل الشخصى فى التعامل مع المكان والارتباط به ثم فك الارتباط، رواسب السكر فى فنجان القهوة، رشفة أخيرة يبقى طعمها فى الفم بعد إغلاق الباب على سنوات من الحياة هناك، بغض النظر عن مكان الـ«هناك» الجغرافى. ما يبقى هو فكفكة خيوط سجادة ملونة نسجتها على آلة «نول» كالذى نسج عليه السوريون قماش الحرير المذهب الشهير فأدخلت قصة مختلفة كل ليلة على قطعة الحرير. قصص يومية ظهرت على مدى سنوات جلست فيها أمام آلة النسيج أدخل وجوها وأصواتا بين الخيوط حتى بدوا جميعا وكأنهم شخص واحد، ربما هم أنا وقد أخذت من كل منهم تفصيلا أدخلته على نفسى. ثم يأتى اليوم الذى أبدأ فيه بسحب الخيوط واحدا تلو الآخر فأفك السجادة ويتكوم أمامى جبل من الخيوط الملونة والذهبية أعيد فرزها ووضعها فى صندوق خشبى سيسافر معى إلى مكانى الجديد. هناك، سوف أنصب آلة النسيج من جديد وأعيد الكرة: وجوه وأصوات من مكانى القديم أدخل عليها قصصا جديدة وتظهر لوحة أتعايش معها وأحبها.
***
أتعلق بكل بيت أعيش فيه. لم أعد أدعى أن الأماكن لا تعنينى وأننى أتعامل مع التغيير بسلاسة وبساطة. على العكس، فمع كثرة التغيير أرى أننى أتعامل مع كل مكان وكأنه مكانى، أمد فيه جذورا دون استئذان، أتعلق بأصوات جيران لم أكبر معهم وقد لا تربطنى بهم أكثر من كلمة «صباح الخير» لكنى أنسج قصصا عنهم وأتخيل أحاديثهم فى مطبخهم فوق مطبخى. أمر بيدى على جدران بيتى الجديد الفارغة من اللوحات ومن الروائح فى محاولة منى أن أتآلف معها وأن أطبع عليها قصصى الجديدة.
***
لكن لا مفر: ها أنا أبحث عن دمشق فى كل شارع وأحاول أن ألتقى بالقاهرة فى كل حارة. أفرض على رؤيتى لكل جديد أطرا تحد من تلقائية اللقاء، هى أطر صارمة بقدر صرامة انتمائى لمدينتين قاسيتين على أبنائهما، لكن أليس القلب هو من يختار ويحلم؟ أحرك أشيائى فى الفضاء الجديد وأكاد أسمع توسلها إلى بأن أدعها وشأنها علها تتأقلم على الجدران الباردة والمساحة غير المألوفة. أنا وأشيائى فى بحث دائم عن المألوف حتى وإن كان الجديد يستهوينا. أنا وأشيائى نتعامل مع التنقل على أنه دائم، ومع كل مرحلة على أنها الأخيرة. ها نحن إذا نتعرف على مدينة جديدة ونذكر أنفسنا أننا هنا فى مكاننا الجديد الذى سوف نعثر فيه على بعض من أحلامنا أيضا، وسوف أفرد آلة النسيج أمام الشباك وأنظر نحو السماء علنى ألتقط جزءا من قمر أعرف أن طرفا آخر منه ينير سماء من أحب فى مدينة أخرى تركتها.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات