ميت حلاوة نصطبح بالتلاميذ - داليا شمس - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 2:20 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ميت حلاوة نصطبح بالتلاميذ

نشر فى : الأحد 18 أكتوبر 2015 - 8:10 ص | آخر تحديث : الأحد 18 أكتوبر 2015 - 8:10 ص

«الفن ساس بالرقة والإحساس»، كلام الشاعر فؤاد حداد غناه قبل سنوات كورال أبناء الصعيد، من ألحان وتوزيع وجيه عزيز. صورة موسيقية بديعة تحتفى بأبناء المهن اليدوية المختلفة: النجار والمنجد وصانع الفخار والطرابيش اللى «بأربع طرابيش وبوسة يعمل خمس برانيط»، كما تحتفى بطلبة العلم «كل أحياء البلد أحياء مدارس، سبت، حد، اتنين، تلات، أربع، خميس. ميت حلاوة نصطبح بالتلاميذ».

كانت هذه أيضا رغبة مؤسس جمعية أبناء الصعيد، الأب هنرى حبيب عيروط، فى مطلع الأربعينيات، عندما أنشأ مدارس مجانية لتعليم أولاد وبنات جنوب مصر. أراد أن تصبح «كل أحياء البلد مدارس وأن يصطبح بالتلاميذ»، إذ كانت من ضمن أقواله: «نبنى مدارس فى الريف، ليس فقط بهدف تعليم أبناء الفلاحين، ولكن أيضا أملا فى أن تصير المدرسة بمثابة قلب القرية النابض ومصدر حياتها».

رجل الدين المسيحى الشرقى، الذى انتمى للآباء اليسوعيين، وتربى فى مدارس العائلة المقدسة كغيره من أبناء الطبقة الميسورة وقتها، حلم بأن يعطى الفقراء أداة لتحسين أوضاعهم الاقتصادية وتنمية المجتمع الريفى. وهو الهدف نفسه الذى عملت على تحقيقه الجمعية التى تحتفل يومى 10 و11 نوفمبر القادمين باليوبيل الماسى لها، وكانت قد سجلت منذ العام 1967 كمؤسسة ذات منفعة عامة، تابعة لوزارة الشئون الاجتماعية، ثم جمعية مركزية ذات صفة عامة عام 2009 معترف بها من وزارة التضامن الاجتماعى، حتى صارت اليوم من أهم كيانات المجتمع المدنى الفاعلة فى الصعيد، وتتلقى دعما ماديا ومعنويا من جهات مختلفة حول العالم. وقد أعلنت أخيرا عن مشروع جديد للتنمية الثقافية لأطفال وشباب بالصعيد فى 25 موقعا موزعين على خمس محافظات (المنيا وأسيوط وسوهاج وقنا والأقصر)، بمساهمة من الاتحاد الأوروبى قدرها 263,500 يورو لمدة عامين، وذلك بمشاركة المجلس الأعلى لقصور الثقافة المصرية ووزارة الشباب والرياضة، إذ تجرى بعض الأنشطة الفنية فى المراكز التابعة لهما بالإضافة إلى مدارس ومكتبات جمعية أبناء الصعيد.

***
الخبر والاحتفال بخمسة وسبعين عاما على تأسيس الجمعية جعلنى أترحم على الأب عيروط (1907 ــ 1969) ومن هم على شاكلته وأتذكر كتابه الشهير عن الفلاح المصرى، والذى يعد من أهم المراجع لفهم وتنمية المجتمعات الريفية. وهو بالأساس موضوع أطروحة الدكتوراه فى العلوم الإنسانية التى حصل عليها الأب عيروط من كلية الآداب جامعة ليون بفرنسا سنة 1938 حول عادات وتقاليد الفلاح المصرى. وبعدها بعامين فقط أراد أن يطبق عمليا ما طرحه نظريا فى كتابه الصادر أولا بالفرنسية (سنة 1938) ثم الإنجليزية ( سنة 1963) ثم ترجم بعدها بسنوات إلى العربية. أراد أن يشتبك مع الواقع الذى سجل طويلا مشاهداته حوله، خاصة فيما يتعلق بسلوك الفلاح وطباعه وطريقته فى التفكير والحياة، مع ربط كل ذلك قطعا بالوضع السياسى للبلد ككل. وصف مثلا الفلاح المصرى كالآتى: «نظرا لكونه يعيش فقط اللحظة الراهنة فهو لا يتعجل الأمور، ليس طموحا ولا فضوليا. عذب ومسالم لأنه صبور، وهو صبور لأن لديه قدرة كبيرة على تحمل الأحداث والبشر. كنهر النيل يدع الأمور تسير، فلا يبالى أكثر منه كسول»، ما أثار حفيظة بعض الباحثين الذين أرجعوا بالأحرى مثل هذا السلوك لثقافة الخوف التى طالما سادت بر مصر.

***
لم تكن أفكار هنرى عيروط بمعزل عن تطورات المجتمع منذ القرن التاسع عشر وانتشار زراعة القطن فى البلاد، فجنبا إلى جنب مع تطوير نظام الرى والصرف حاولت الدولة أن تطهر الريف من الأوبئة. ولجأت إلى تعيين العمد ليكونوا همزة الوصل بين القرى وأجهزتها المركزية. وفى الفترة من بداية العشرينات إلى منتصف الثلاثينيات نشط المجتمع الأهلى واهتمت جمعياته بأوضاع الريف. ولأول مرة وضع قانون لتنظيم عمل التعاونيات الزراعية. ثم ما بين العام 1939 و1945، تم حشد جهود كل الوزارات المعنية بهدف النهوض بالمجتمعات الريفية، تحت ضغط الرأى العام والجمعيات الأهلية. ظهرت وقتها أيضا أول وزارة للشئون الاجتماعية، تضم قسما يعنى فقط بأوضاع الريف، وكان ضمن مهامه إنشاء مراكز اجتماعية داخل القرى. لكن الأمر كله توقف عام 1942 بسبب غياب مصادر مستدامة للتمويل.
 
خلال الفترة نفسها، تم كذلك ربط العديد من مناطق الريف بشبكة مياه الشرب وسعت وزارة التعليم إلى بناء أربعة مدارس تتماشى مع طبيعة واحتياجات مجتمع الريف، لكن عدم وجود رؤية شاملة واستراتيجية طويلة الأمد لتنمية هذه المجتمعات الريفية جعل كل هذه الجهود تتوقف بعد انتعاش مرحلى، تلاه تخبط وتضارب فى الاختصاصات ونقص فى الموارد.

حدث ذلك فى الأربعينيات، وظل يتكرر المشهد نفسه إلى وقتنا هذا: هوجة اهتمام بالصعيد أو القرى الفقيرة، لا نحتفظ منها سوى بذكرى أو أغنية أحببناها كتلك التى سجلها على أسطوانة مدمجة كورال أطفال الصعيد الذى كونته الراهبة سيليست خياط بالمنيا فى منتصف الثمانينات، ضمن أنشطة جمعية أبناء الصعيد. يصلنا من بعيد صوت هؤلاء الأطفال وهم يغنون «القلب من جوه الصعيد والنيل وطن (...) والحلو شايل قلتين والشمس تحت النخلتين»، والنيل وطن.

التعليقات