نعود إلى البدايات: إذا كان انكماش الطبقة الوسطى في مصر خلال عقود نظام مبارك الثلاثة قد أفقد عملية التحول الديمقراطي بعد يناير ٢٠١١ مقوما رئيسيا من مقوماتها ومهد لانقلاب الكثير من شرائح وفئات هذه الطبقة على طلب الحرية بعد ٣ يوليو ٢٠١٣، فإن الانقلاب على الحرية هذا ما كان له أن يحدث لولا ضعف الالتزام المبدئي بقيم حقوق الإنسان والمساواة وسيادة القانون وتداول السلطة وقبول التنوع والتعددية الذي عانت منه الطبقة الوسطى المصرية منذ النصف الثاني من القرن العشرين وارتبط عضويا بهيمنة نموذجين فكريين وسياسيين على وعيها العام ومخيلتها الجماعية يتناقضان مع التنظيم الديمقراطي للدولة وللمجتمع.
تخلل النموذج الأول وعي ومخيلة الطبقة الوسطى في خمسينيات القرن الماضي،وتواكبت هيمنته مع تبلور كاريزما الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر "كبطل شعبي صاحب زي عسكري" عهد له بمفرده بإدارة شئون الدولة والمجتمع وإنجاز الصالح العام. أما النموذج الثاني، "تديين الدولة والمجتمع" واختزال السياسة إلى "صراع على الهوية"، فلم ينجح على الرغم من حضوره فكريا وتنظيميا في المساحة العامة المصرية منذ بدايات القرن الماضي في اختراق شرائح وفئات الطبقة الوسطى إلا مع توالي إخفاقات وإحباطات الناصرية في الستينيات وابتعاد نخبة الحكم عنها في السبعينيات وبحث المصريات والمصريين عن بدائل.
حددت كاريزما جمال عبد الناصر مضامين نموذج "البطل الشعبي صاحب الزي العسكري" على نحو شمولي. من جهة؛ سلطات وصلاحيات مطلقة، لا مساءلة ولا محاسبة للرئيس الذي تحول إلى زعيم، احتكار حق الحديث باسم المواطن الذي ألغي وجوده كفرد وضم قسرا إلى جماهير الشعب التي فرض عليها إما التأييد تهليلا أو التأييد صمتا أو مواجهة القمع وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان.
من جهة أخرى؛ سيطر المكون العسكري-الأمني على مؤسسات الدولة وأجهزتها واستتبع المجتمع وفاعلياته، عطلت سيادة القانون ونزع استقلال السلطتين القضائية والتشريعية،فرغت الإرادة الشعبية من المضمون وقضي على التنوع والتعددية في المساحة العامة، صنفت الدولة العسكرية-الأمنية جماهير الشعب وفقا لثنائية المؤيدين-الشرفاء والمعارضين-الخونة.
وفي مقابل الشمولية وسيطرة المكون العسكري-الأمني على الدولة واستتباع المجتمع وإلغاء وجود المواطن الفرد وانتهاكات حقوق الإنسان، وعد "البطل" بالتقدم والدولة العصرية الملتزمة بمصالح الكادحين ومحدودي الدخل والطبقة الوسطى والعدالة الاجتماعية والوحدة العربية وتحرير فلسطين ولم ينجز أيا من هذه الأهداف وما كان له أن ينجزها - لأن، واختصر هنا نقاش أكاديمي واسع في العلوم السياسية، المكون العسكري-الأمني يفشل دوما في دفع الدول والمجتمعات إلى الأمام.
على الرغم من الإخفاق التاريخي لنموذج "البطل الشعبي صاحب الزي العسكري"،تواصل تأثيره على وعي الطبقة الوسطى المصرية إلى اليوم واختلط موضعه في مخيلتها الجماعية (والمخيلة الجماعية لعموم المصريات وللمصريين) بذكرى كاريزما جمال عبد الناصر وبالتقدير العام للدور الوطني للجيش وبالولع المستمر بالبحث عن الدولة الأب-الدولة المركزية التي تعلن عبر الرئيس-القائد-الزعيم-الفرعون-البطل مطلق السلطات على تحقيق التقدم والعدالة والأمن. وبرز دوما تأثير هذا النموذج على التفضيلات والاختيارات غير الديمقراطية للطبقة الوسطى في مراحل التراجع ولحظات الأزمة والخوف على تماسك الدولة والمجتمع، وهذه حصرا هو مكونات البيئة الراهنة لاستدعاء وتجديد خلايا نموذج البطل الشعبي صاحب زي العسكري.
وأتابع بالغد النقاش حول تأثير النموذج الثاني، تديين الدولة والمجتمع والاختزال الهوياتي للسياسة، على وعي الطبقة الوسطى واختياراتها غير الديمقراطية. غدا هامش جديد للديمقراطية في مصر.