التعليم والإعلام ومناجم الكراهية - صحافة عربية - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 1:10 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التعليم والإعلام ومناجم الكراهية

نشر فى : الثلاثاء 19 مارس 2019 - 11:50 م | آخر تحديث : الثلاثاء 19 مارس 2019 - 11:50 م

نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب «غسان شربل» جاء فيه:
لا غرابة أن يصابَ العالم بالذهول والغضب والذعر. المشاهد تفوق القدرة على الاحتمال على الرغم من التمرس بالقساوات والجرائم فى الأعوام الأخيرة. شاهد ملايين الأشخاص شلالات الحقد تتدفق على الشاشات. إرهابى واحد أطلق «تسونامى» من الكراهية. بدت المسألة أخطر من انغماس شاب موتور فى جنازة أو عرس والانفجار وسط الحاضرين وتطاير أشلائهم. بدت مذبحة مبرمجة ومروعة. قاتل محترف يتصرف بدم بارد. تساقط جثث الأبرياء يضاعف عطشه إلى المزيد. يعيد تلقيم سلاحه كأنه يتدرب فى نادى الرماية. لا تلجمه صرخات المصابين. ولا حرمة المكان. ينتقل عن سابق تصور وتصميم إلى مسجد آخر ليضاعف عدد القتلى. بث حى مقزز. سبقه بيان سياسى طويل يحاول عبثا تبرير ما لا يمكن تبريره. استباحة كاملة لحياة أبرياء كانوا يصلون. واستباحة لحرمة المسجد الذى يحتضنهم.
ليس من عادة العالم أن يلتفت إلى نيوزيلندا. لا تهز أمنه ولا اقتصاده. ثم إنها ليست ميدانا لـ«صراع الحضارات» ولا مسرحا لخطوط تماس ملتهبة بين الأديان أو الأعراق. دولة صغيرة ومتواضعة وآمنة. جزر تقيم فى جنوب غرب المحيط الهادى حالمة بأيام أفضل لسكانها. ديمقراطيتها قادرة على الرقابة والتصحيح والفساد لا يفسد اقتصادها أو يومياتها. دولة منهمكة بتطوير قدرتها على اجتذاب السياح مع انشغالها التقليدى بأسعار اللحوم وثروتها من الألبان. فجأة احتلت الموقع الأول على الشاشات. شاء سوء حظها أن تدفع إلى الأضواء على يد إرهابى أسترالى أحمق اختارها مسرحا لثاراته الوافدة من كهوف التاريخ.
فى بيانه الذى سعى من خلاله إلى تبرير جريمته اعتبر برينتون تارانت أن تدفق المهاجرين على الدول الغربية يشكل أخطر تهديد لمجتمعاتها ووجودها نفسه، لأنه يرقى إلى «الإبادة الجماعية للبيض». وصف المهاجرين بأنهم «غزاة» يجب إقناعهم بـ«أن أراضينا لن تكون لهم أبدا». وأكد أنه تحرك انتقاما لـ«ملايين الأوروبيين الذين قتلهم الغزاة الأجانب عبر التاريخ وآلاف الأوروبيين الذين قضوا فى هجمات إرهابية على الأراضى الأوروبية». وأكد تارانت أنه لا يشعر بالندم و«يتمنى فقط أن يستطيع قتل أكبر عدد ممكن من الغزاة والخونة أيضا». وشدد على أنه «ليس هناك من برىء بين المستهدفين، لأن كل من يغزو أرض الغير يتحمل تبعات فعلته». ولفت إلى تراجع معدلات الخصوبة لدى البيض والتغيير الواسع الذى يحدق بهوية البلدان التى تستقبل المهاجرين. ولم يخفِ أنه استوحى فعلته من إرهابى آخر يعرف بسفاح النرويج وهو أندرس بريفيك الذى قتل 77 شخصا فى هجوم 2011 وهو ينتمى إلى اليمين المتطرف ومعروف عنه عداؤه للإسلام.
ليس سرا أن أمواج الهجرات الواسعة التى شهدها العالم فى السنوات الأخيرة والتى ترافقت مع هجمات إرهابية لـ«القاعدة» وبعدها «داعش» أثارت قلقا واسعا لدى اليمين المتطرف فى عدد من البلدان. وليس غريبا أن يسمع الزائر فى عواصم غربية عدة كلاما من قماشة أن «باريس لم تعد باريس» وأن «هولندا الحالية لا تشبه هولندا السابقة» وأن «ألمانيا لن تكون بعد عشر سنوات هى نفسها ألمانيا التى نعرفها حاليا». وقد ترجمت تلك المخاوف فى صعود لليمين المتطرف والنزعات العنصرية فى أكثر من مكان وفى تراجع فى شعبية الأحزاب «التى فتحت أبواب اللجوء على مصراعيها».
وعلى الرغم من تأكيد قيادات أوروبية فى طليعتها المستشارة الألمانية أن استقبال المهاجرين واجب إنسانى، لكنه فى الوقت نفسه حاجة اقتصادية، فإن اليمين المتطرف ذهب بعيدا فى إثارة المخاوف على الهوية والتقاليد. ويمكنك سماع فرنسى يقول إن جاره الوافد إلى البلاد من ثقافة أخرى يرفض التكيف مع الثقافة الفرنسية أو «قيم الجمهورية» ويصر ليس فقط على العيش خارج هذه القيم، بل يحاول فرض أسلوبه فى العيش على البلاد التى تتحمل عبء استضافته. وأبرزت وسائل إعلامية أكثر من مرة موضوع ارتفاع معدلات الجريمة بعد التدفق الكثيف للاجئين، مشيرة إلى نظرة هؤلاء المختلفة إلى الدولة وحكم القانون والنظرة إلى المرأة.
تتحمل أطراف كثيرة مسئولية تصاعد المخاوف من الإسلام فى بعض المجتمعات الغربية. غداة سقوط الاتحاد السوفيتى بدا الحديث عن «الحاجة إلى عدو جديد» وأن الإسلام «هو الخطر المقبل». وتكاثرت التحليلات التى تتوقع صداما مروعا بين الحضارات وحروبا بين الأديان. وجاءت بعض التمزقات لتغذى نظرية حروب الهويات الدامية وبينها صور الجثث الوافدة من الطلاق الصارخ بين مكونات ما كان يعرف بيوغوسلافيا. ثم تدافعت أمواج الهجرة باتجاه الغرب بفعل الفشل الاقتصادى أو القمع أو الغرق فى مستنقعات حروب أهلية اتخذت أحيانا أشكالا من الإبادة الجماعية.
فى موازاة ذلك، لعبت القوى العمياء فى العالم الإسلامى دورا كبيرا فى تدعيم حجج القوى العمياء فى الأماكن الأخرى. ففى مطلع القرن نقلت «القاعدة» الحرب إلى الأراضى الأمريكية نفسها عبر هجمات 11 سبتمبر واجتاحت صور الخراب والضحايا شاشات العالم، وأسهم الرد على تلك الهجمات فى أفغانستان ثم حرب العراق فى توفير مناخات حادة أججت المشاعر وساعدت المتشددين على مزيد من الاستقطاب. وكانت إطلالة «داعش» تطورا فظا فى هذا السياق حين شاهد العالم سكاكين «الدواعش» تحز أعناق أفراد لا لشىء إلا بسبب انتمائهم المختلف. كما شاهد «داعش» يروع عبر خلاياه النائمة أو ذئابه المنفردة مدنا ودولا وينادى بالعودة إلى كهوف التاريخ.
غداة «مجزرة المسجدين» توحد العالم فى إدانة الإرهابى القاتل وفكره وتبريراته. أدرك العالم خطورة الانحدار إلى ممارسات ترمى إلى إشعال خطوط التماس بين الأعراق والحضارات والأديان. لكن الإدانات والإجراءات العقابية بحق المنفذين لا تكفى. لا بد من معركة يومية واسعة لإنقاذ قيم التعايش والتسامح. لا مخرج للعالم من مستنقعات العنصرية والتعصب إلا بمعركة يومية داخل المدارس والجامعات والمنابر الدينية والاجتماعية والسياسية لمنع المتعصبين من الاستيلاء عليها وإطلاق أمواج التعصب والكراهية. ولا بدَ لوسائل الإعلام من سلوك طريق المسئولية ومنع تحول منصاتها منابع للكراهية. إن السباق إلى استقطاب المتابعين باستخدام الصور الفظة والعبارات المثيرة يسقط وسائل الإعلام فى يد المتطرفين الحالمين بنسف كل الجسور لبناء عالم الجدران العالية والهويات المسورة بالدم. والواجب يقضى بالوقوف ضد ينابيع الكراهية فى المنزل والعمل والكتب و«تويتر» و«فيسبوك» وفى كل مكان. من دون قبول صريح بحق الآخر أن يكون مختلفا سنشهد تدفق مزيد من أمواج الكراهية.

الشرق الأوسط ــ لندن

التعليقات