تحت الطاولة كلام مختلف - فهمي هويدي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 6:54 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تحت الطاولة كلام مختلف

نشر فى : السبت 19 يونيو 2010 - 10:55 ص | آخر تحديث : السبت 19 يونيو 2010 - 10:55 ص

 أفهم أن تبرز الصحف العبرية الموالية لبنيامين نتنياهو قرار الحكومة الإسرائيلية تسهيل دخول السلع إلى غزة، وتصوره بأنه تعبير عن التسامح وسعة الصدر إزاء الفلسطينيين، لكن الذى أستغربه حقا أن يكون هذا القرار هو العنوان الرئيسى (المانشيت) الذى تبرزه الصحف القومية المصرية على صفحتها الأولى.

بكلام آخر فنحن فى مصر إذا لم نتعامل إعلاميا مع الخبر بحجمه الطبيعى ولم نفضح الحيلة والتلاعب فيه، فمن يقوم بهذه المهمة إذن، ومن يحمى بسطاء الناس من الوقوع ضحية الإفك والتضليل الإسرائيليين؟
لقد قدم الخبر فى صحافتنا القومية وكأنه إنجاز تحقق وليس كذبة جديدة، تحتال بها إسرائيل لتحسن صورتها أمام الرأى العام العالمى بعد جريمة الانقضاض والقتل التى ارتكبتها فى عرض البحر ضد قافلة الحرية. ذلك أن السماح بإدخال البقدونس أو المربى والبسكويت مثلا إلى غزة لا يغير من حقيقة الجريمة شيئا. ثم إن مثل هذه السلع من التفاهة بحيث لا تستحق أن تذكر. والتعامل المهنى والسياسى المسئول يقتضى فضح الجريمة وليس إبرازها. وقافلة الحرية التى قصدت غزة، والدماء التى سالت على ظهر السفينة أنقرة والتعبئة الكبيرة التى أحاطت بالرحلة، كانت تستهدف التأكيد على ضرورة كسر الحصار، وليس السماح بإدخال بعض المعلبات إلى القطاع.

حين وجدت أن الخبر يستحق إدانة ونقدا وليس إبرازا، ولم أجد له مضمونا ذا قيمة يفرضه على رأس الصفحة الأولى، وهو مما لا يفوت أى صحفى مبتدئ، فإننى أعدت قراءته مرة أخرى، وحينئذ أدركت سر إبراز الخبر. إذ كان العنوان التالى مباشرة تحت أكذوبة الموافقة على تسهيل دخول السلع كالتالى: مبارك يؤكد (على) ضرورة رفع الحصار وإنهاء معاناة القطاع. وفى التفاصيل المذكورة أن الرئىس مبارك تلقى اتصالا هاتفيا من رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو تطرق خلاله للإجراءات التى اعتمدتها حكومته لتخفيف الحصار على غزة، استجابة لما طلبه منه السيد الرئيس فى لقائهما الأخير بشرم الشيخ فى شهر مايو الماضى (الأهرام 18/6).

أدركت من هذه الإشارة إلى أن الخبر الحقيقى عند محرر الأهرام ليس تسهيل دخول السلع إلى غزة، ولكنه اتصال نتنياهو مع الرئيس مبارك، ولفت الانتباه إلى أن قرار الحكومة الإسرائىلية جاء استجابة لمطلب تقدم به إلى رئيس الوزراء الإسرائيلى حين التقيا فى شهر مايو الماضى، قبل تحرك قافلة الحرية من الموانئ الأوروبية.
لقد حرص الأهرام على الإيحاء بأن تخفيف الحصار كان استجابة لطلب الرئيس مبارك، بما يعنى أن خروج قافلة الحرية والشهداء الذين سقطوا وهم فى الطريق إلى غزة، والضجة العالمية التى حدثت بسبب القافلة. ذلك كله لم يكن له أى تأثير على دفع الحكومة الإسرائىلية إلى اتخاذ تلك الخطوة (هذه الخلفية تجاهلها الخبر المنشور ولم يأت لها على أى ذكر).

فى ذات الوقت لاحظت أن العنوان تحدث عن تأكيد مبارك على ضرورة رفع الحصار وإنهاء معاناة قطاع غزة، وهو ما جعل الأمر يلتبس على، إذ لم أفهم لماذا تحدث العنوان عن مطالبة مبارك بضرورة رفع الحصار وإنهاء معاناة القطاع، فى حين أن المتن ذكر صراحة أن الرئيس طلب من نتنياهو فى شهر مايو أن يخفف الحصار فقط ــ حتى قلت إنه إذا كان للرئيس ذلك «الخاطر» لدى حكومة نتنياهو الذى يجعلها تستجيب لرغباته فلماذا لم يطلب منهم رفع الحصار بدلا من تخفيف سقف الطلبات وقصر الحديث على تخفيفه؟

لقد امتدحت واشنطن القرار الإسرائيلى، ورحب به السيد تونى بلير مبعوث الرباعية إلى الشرق الأوسط، قائلا إنه خطوة مهمة، أما الرئيس الفلسطينى محمود عباس والدكتور صائب عريقات كبير المفوضين فقد رفعا السقف عاليا فى التصريحات الصحفية المنشورة، وطالبا برفع شامل للحصار، لكنهما لم يعقبا على فكرة تخفيف الحصار، ولم يربطا بين تحقيق مطلب رفع الحصار الشامل وبين بدء المفاوضات غير المباشرة، وهو المؤشر الوحيد الدال على جدية طلب الرفع، كأنما أرادا أن يسجلا موقفا عالى السقف فى وسائل الإعلام فى حين لم يعترضا على التخفيف الذى لا يغير شيئا يذكر فى قطاع غزة.

ما الذى يعنيه كل ذلك؟.. رأيى أن الكلام تحت الطاولة ليس مختلفا على إبقاء الحصار حتى تستسلم غزة. وتسقط حكومة حماس، وهو مطلب كل الأطراف. أما الكلام فوق الطاولة فهو يطلق الدعوة بصوت عال للمطالبة بإلغاء الحصار. والكلام الأول متفق عليه بين اللاعبين على المسرح، أما الثانى فهو موجه إلى جمهور المتفرجين، الذين هم نحن ــ وهذا للعلم فقط.

فهمي هويدي فهمى هويدى كاتب صحفى متخصص فى شؤون وقضايا العالم العربى، يكتب عمودًا يوميًا ومقالاً اسبوعياً ينشر بالتزامن فى مصر وصحف سبع دول عربية اخرى. صدر له 17 كتابا عن مصر وقضايا العالم الاسلامى. تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1961 ويعمل بالصحافة منذ عام 1958.