أخت روحي - نيفين مسعد - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 12:38 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أخت روحي

نشر فى : الخميس 19 ديسمبر 2019 - 9:30 م | آخر تحديث : الخميس 19 ديسمبر 2019 - 9:30 م

هذه المجموعة القصصية للكاتب القدير عمّار علي حسن لازمتني طويلًا في أسفاري وتنقلاتي، وكان من المفترض أن تجد مكانها في مساحتي الأسبوعية هذه منذ وقت طويل، لكني تركت نفسي تتفاعل على مهلها مع أحداث المجموعة وشخوصها، وتقرأها قراءة ثانية وربما ثالثة لتلتقط ما عسى يكون قد فاتها من جماليات النص وحبكة الأحداث فيما بين قراءة وأخرى، فنحن إزاء عمل إبداعي يغوص في أعماق شخوصه ويستنطق الجماد والموجودات.
***
يتكون هذا العمل الأدبي الجديد للكاتب عمّار علي حسن، والصادر مطلع هذا العام عن الدار المصرية اللبنانية، من أربع عشرة قصة قصيرة، إحداها قصة أخت روحي التي أعطى الكاتب اسمها للمجموعة كلها. أما حكاية أخت روحي فهي عن وداد التي سامتها زوجة أبيها سوء العذاب وانتقمت من أمها في شخصها، فالأب قد فضّل في البداية أم وداد وتزوجها، وعندما ماتت أم وداد ودّع معها رجولته فلم يبق لزوجته الثانية منه إلا نصف رجل. حُرِمَت وداد من حقها في التعليم وفي اختيار شريك الحياة ، أما حقها في الكرامة فكان من قبيل الرفاهية. تخلصت وداد من زوجها بطلوع الروح وعاشت وحيدة في شقة الأسرة القديمة، حتي إذا ماتت ولم يدر بها أحد، جاء أخوها يكفّر عن خذلانها فانكب على جثمانها وسحب شهيقا عميقًا من الرائحة التي عافها الجميع.
***
مع أن قصص المجموعة لا تدور كلها في القرية، إلا أن أكثرها يرتبط بها، بحقولها وزروعها ودوابها وترعها وبيوتها المصنوعة من الطمي وثأرها أيضا. تبدأ المجموعة بقصة "الجميزة" المُعمّرة التي قطعوها وبنوا مكانها بيتاً من حجر وأسمنت وكانت كمثل العَلَم فوق السارية تؤشر عن بعد لوجود القرية وتُسّر للقادم الغريب بأنه قد اقترب، قطعوها فطارت العصافير وطار معها الصغار الذين كانوا يستظلون بظلها الوارف، لا بل وسقطت أيضا من فوق أغصانها وجوه الأجداد فمثلها مثل أشجار العائلات كل فرع فيها عَصَب وكل ورقة ترمز لأسرة. وتنتهي المجموعة بقصة "الممنوع" التي تدور أحداثها في إحدى القرى، من خلال أسرة شيخ الخفر المستبد الذي تقع ابنته رضيّة في حب فهمي، وهذا جرم لا يغتفر أولًا لأنه ممنوع الحب وثانيا لأن فهمي سليل أسرة من الأجراء فيما عائلة رضّية من أصحاب الطين. وفيما بين بداية المجموعة ونهايتها تتناثر القصص التي تعّب عبّا من عالم القرية بقطع النظر عن شخصية البطل، فأن يكون البطل كاتبًا مدمنًا للسهر في أحد مقاهي وسط القاهرة كما في قصة "مقهي علاء الدين" فإنه لا ينفك يذكر ذلك المقهى العابر الواقع على شاطئ الترعة قرب مدخل قريته، بل لعله اختار مقهى علاء الدين تحديدًا لأن الماء قاسم مشترك بينه وبين مقهى القرية: فالنيل في القاهرة تقابله الترعة في القرية. أو يكون البطل محرراً فنياً بسيطاً اختارته نجمة من نجمات السينما ليغطي أخبارها فيتعلق بها كما في قصة "صورتها في الماء"، حتى إذا ما اعتزلت نجمته التمثيل عاد البطل أدراجه إلى قريته وهو كسير ثم راح تحت شجرة النبق يبحث عن صورتها فوق الماء ويطاردها حتى القاع. أو يكون البطل شخصًا بوهيمياً كما في قصة "جمرة تخرج من الماء"، هرب سنين عديدة من الثأر بفضل سحر عجيب هيأه له ساحر مكين لكن السحر زال عندما اصطادت سنارته جمرة طافية فوق مياه الترعة. وقريب من فكرة الهروب من الثأر هذه جاءت قصة "ضحكنا في جنازته" التي تحكي عن شاب قروي تخفّى طويلا عن مطارديه للثأر منه، حتى إذا خرج ليلًا ذات مرة أردته رصاصاتهم قتيلاً، وكانت وصيته أن يتذاكر مشيعوه نكاته فتذاكروها وضحكوا في جنازته حتى البكاء.
***
هكذا فإن للمكان حضور طاغ في هذه المجموعة، ودائما ما يكون للمكان تأثيره على الكاتب، لكن في حالتنا هذه فإن المكان ليس مجرد مسرح تدور فيه الأحداث، لأنه حتى عندما كانت تدور الأحداث في المدينة كانت المقارنة مع القرية حاضرة، لذلك بدا كما لو أن الكاتب يأخذه حنين جارف لأجواء القرية التي ترتبط بجزء من ماضيه وتاريخه الشخصي، وربما يعود ذلك لشعوره بالاغتراب عن واقعه المعاش، ففي الأزمات تنتعش النوستالچيا ويزيد حضور الذكريات. من هنا سوف يتكرر قيام الكاتب بالمقابلة بين القرية والمدينة "المتوحشة" في أكثر من قصة، أما السؤال عن إلى أي مدى تبدو القرية اليوم أقل توحشاً من المدينة فهو سؤال بلا معنى، فبالتأكيد حدث خلط كبير بين القرية والمدينة فصارت كل مدينة بداخلها قرية وكل قرية تسكنها أخلاق المدينة ولم تعد ثنائية المدينة/ القرية كما كانت في الماضي، ولقد أشار الكاتب نفسه إلى أن القرية فقدت بعض أصالتها عندما قُطعت جميزتها، لكن القرية في ذهنه تظل هي المأوى والراحة والدفء حتى وإن تغيرت طبيعتها.
***
مجموعة "أخت روحي" تجنح أحياناً إلى النهايات المفتوحة كما في قصة "موظف عام" التي يحارب بطلها الأمراض وقد توالت عليه بلا رحمة كما يحارب الفساد وقد أحاط به من كل جانب، حتى إذا تعددت ساحات معاركه وسقط ذات يوم مغشياً عليه لم يدر القارئ إن كانت أصابته غيبوبة سكر مؤقتة أم هو غاب إجمالًا عن الدنيا. ولا تخلو المجموعة من بعض إسقاطات سياسية، ففي قصة "مكان آخر" على سبيل المثال ارتخت قبضة البطل العجوز فسقطت من يده المجلات "وصنعت كومة تحت قدميه، أطلت منها صور كثيرة لساسة كبار وفنانين ولاعبي كرة قدم". ويختلط فيها الواقع بالأسطورة كما في الكلام عن البطل المسحور الهارب من الثأر في قصة "جمرة تخرج من الماء". نأتي أخيرًا إلى الحوار، وقد اختار الكاتب أن يدور الحوار بين شخصياته باللغة العربية الفصحى، وهذا لم ينقل المعنى للقارئ بنفس القوة التي كان يمكن أن تنقلها اللغة العامية خاصة عندما تعلق الأمر بأمثال شعبية أو أقوال دارجة. ففي قصة "الممنوع" على سبيل المثال تخاطب الأم ابنها قائلة "أقص شعري، لو لم أزوجها لك".
***
آن لمجموعة "أخت روحي" التي طافت معي وجالت شهورًا طويلة أن تستقر في هذا العامود الأسبوعي فأُفرِغ بعرضها شحنة المشاعر الجياشة التي استقيتها منها، وأجدد تذكار بعض شخصياتها بتركيبتها النفسية الخاصة جدًا.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات