التجويع والتهجير.. و«إسكات الزمن الفلسطينى» - محمد سعد عبدالحفيظ - بوابة الشروق
الأحد 20 يوليه 2025 10:45 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما هي توقعاتك لمصير وسام أبو علي في المرحلة المقبلة؟

التجويع والتهجير.. و«إسكات الزمن الفلسطينى»

نشر فى : الأحد 20 يوليه 2025 - 6:40 م | آخر تحديث : الأحد 20 يوليه 2025 - 6:40 م

بينما كانت إسرائيل تدُك مدن وقرى قطاع غزة فى حرب 2008/2009 التى عرفت إسرائيليا بـ«الرصاص المصبوب» وفلسطينيا بـ«معركة الفرقان»، كتب دان شيفنون رئيس مركز أبحاث الأمن القومى فى جامعة حيفا، مقالا فى صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية أكد فيه أن أهداف تلك الحرب ومعيار نجاحها لا يكمن فى القضاء على حماس ولا القسام، لافتا إلى أن الهدف الاستراتيجى هو «خراب غزة».

ويرى شيفنون فى مقاله الذى نشره قبل 3 أيام فقط من نهاية الحرب التى استمرت 23 يوما مخلفة نحو 1500 شهيد و5500 جريح، أن «خراب غزة» سيسهم فى منع اندلاع حروب مستقبلية مع لبنان أو سوريا، كما أنه سيعطى أيضا إشارة واضحة إلى إيران بشأن «حدود ضبط النفس الإسرائيلى».

وفى 17 يناير 2009، أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، إيهود أولمرت، أن المجلس الوزارى المصغر صوّت لصالح وقف إطلاق النار، ما وضع حدًا لحرب استهدفت فيها آلة الاحتلال كل المرافق الحيوية فى القطاع: من مدارس وجامعات ومساجد، إلى مستشفيات ومراكز طبية.

ورغم كل ما تعرضت له غزة من «خراب»، فشلت إسرائيل فى تحقيق أهدافها. فقد نهض القطاع من تحت الركام، بسكانه ومقاومته وسلاحه ومؤسساته المدنية، ليعود شوكة فى خاصرة إسرائيل التى حاولت مرارا كسرها لكنها تفشل فى كل مرة. وعقب كل فشل، تعاود دولة الاحتلال رسم مخططات أكثر قسوة وإحكامًا وإجرامًا، لاستكمال مشروع كسر القطاع الذى بات يمثل تهديدًا وجوديًا للدولة العبرية.

«إسكات الزمن الفلسطينى»، هكذا صاغ المفكر الإسرائيلى أورن يفتحئيل، أستاذ الجغرافيا السياسية فى جامعة بن جوريون، الهدف الاستراتيجى من الحروب الإسرائيلية على الشعب الفلسطينى. ففى مقال كتبه إبان حرب 2009، قال: «هذه الحرب استمرار لمشروع وسلوك إسرائيل التى تبنت هدفًا متشددًا ووحشيًا يتمثل فى إسكات الزمن الفلسطينى، أى محو التاريخ الكامل لهذه البلاد»، مضيفًا أن «إسكات التاريخ يعنى أيضًا محو المكان الفلسطينى، ومعه الحقوق السياسية الكاملة».

منذ عام 2009، خاضت إسرائيل ست حروب ضد قطاع غزة. وعلى الرغم من نجاحها عبر ترسانتها العسكرية الضخمة فى «تدمير القطاع، إلا أنها لم تفلح فى «إسكات الزمن الفلسطينى».

مع اندلاع الحرب الأخيرة والتى بدأت بعد ساعات من عملية «طوفان الأقصى»، غيرت إسرائيل استراتيجيتها، إذ لم يعد هدفها فقط إخضاع الشعب الفلسطينى، بل تهجيره أولًا من غزة، ثم من الضفة الغربية، وإعادة ترسيم خريطة «إسرائيل الكبرى» لتشمل كامل الأرض من البحر إلى النهر، مع فرض مجال أمنى حيوى فى دول الطوق، تحقيقًا لحلم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بإعادة تموضع دولته كقوة إقليمية عظمى تهيمن على الشرق الأوسط، وتعيد رسم خرائطه.

نجحت إسرائيل فى تحقيق بعض أهدافها فى لبنان وسوريا، لكنها ورغم مرور نحو عامين على بدء العدوان الغاشم على غزة والذى استخدمت فيه كل أسلحتها لم تتمكن حتى الآن من إجبار الشعب الفلسطينى الصامد ومقاومته الباسلة على الاستسلام ورفع الراية البيضاء.

لم يخف نتنياهو ووزراؤه فى حكومة اليمين الدينى المتطرف رغبتهم فى تهجير سكان غزة، استكمالًا لأجندتهم الخاصة بإعادة تشكيل المنطقة. ولأجل ذلك، استخدموا أحقر الوسائل: القتل، والتشريد، والتدمير، وأخيرًا التجويع، عبر فرض حصار محكم يمنع دخول المساعدات الإنسانية، حتى لا يجد أهل القطاع ما يسد رمقهم، فيضطروا إلى القبول بمخطط التهجير «الطوعى» الذى تتقاطع فيه أهداف الاحتلال مع الرغبة الأمريكية.

وفى الوقت الذى تجرى فيه مفاوضات بشأن صفقة جزئية لوقف مؤقت للحرب، وبينما ترتفع كل يوم أعداد الشهداء بسبب الجوع وسوء التغذية، توجّه رئيس جهاز «الموساد» دافيد برنياع إلى واشنطن هذا الأسبوع، طالبًا من الإدارة الأمريكية المساعدة إقناع دول بإعادة توطين مئات الآلاف من سكان القطاع.

وخلال لقائه مع ستيف وتيكوف، مبعوث الرئيس الأمريكى، قال برنياع إن «إثيوبيا، وإندونيسيا، وليبيا أبدت انفتاحًا على استقبال أعداد كبيرة من الفلسطينيين»، واقترح أن تقدم واشنطن حوافز لتلك الدول كى توافق على الخطة الإسرائيلية.

تستخدم إسرائيل سلاح التجويع كجزء من حربها الشاملة على القطاع. فلم تعد المجاعة عرضًا جانبيًا أو نتيجة للحصار، بل أداة مدروسة لدفع السكان نحو «الهجرة الطوعية» المدعومة أمريكيًا، فحين يُحاصر الناس بين القصف والجوع، يصبح الخروج من الأرض خيارًا ممكنا.

حتى الآن، أظهر أهل غزة تمسكًا بالأرض والبقاء، لكن استمرار الحصار والموت والجوع، وسط الصمت الدولى والتخاذل العربى، قد يدفع الناس إلى اليأس، ما يفتح الباب أمام تنفيذ سيناريو «إسكات الزمن الفلسطينى»، بما يتضمنه من محو للشعب والمكان والتاريخ.

 

 

 

 

محمد سعد عبدالحفيظ كاتب صحفي وعضو مجلس نقابة الصحفيين
التعليقات