معضلة البحث في علومنا الاجتماعية! - محمد يوسف - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 8:40 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

معضلة البحث في علومنا الاجتماعية!

نشر فى : الجمعة 20 ديسمبر 2019 - 9:45 م | آخر تحديث : الجمعة 20 ديسمبر 2019 - 9:45 م

أتيحت لى فرصة الاقتراب من مجتمع البحث العلمى العربى؛ ورأيته يعج بالظواهر والمشكلات التى تحتاج لبحث وتمحيص من جانب المهمومين بمستقبل هذه البقعة من العالم. وإذا كان عالمنا العربى يعانى منذ عقود طويلة من تدهور شديد فى قيم العمل والإنتاج المادى، فإن تدهور قيم البحث العلمى والإنتاج الفكرى فيه باتت أشد وأنكى. وتحليل المشكلات التى ألمت بمجتمع البحث العلمى العربى فى حقول العلوم الاجتماعية، هو هدف الفقرات القادمة.

***
هناك فرق جوهرى بين طبيعة البحث فى العلوم الاجتماعية، كالاقتصاد والاجتماع وعلم النفس، وبين طبيعة البحث فى العلوم الطبيعية، كالفيزياء والكيمياء والأحياء. وهذا الفرق فى الطبيعة البحثية لهذين النوعين من العلوم يمثل انعكاسا كاملا للفرق بين المجتمع وبين الطبيعة، بين الإنسان وبين المادة. فمهما تغير الزمان والمكان، تعتمد العلوم الطبيعية على مقدمات ومنطلقات ثابتة، وتصل بها لنتائج وحقائق ثابتة ومعممة. كما أن البحث العلمى فى العلوم الطبيعية هدفه الأساسى هو اكتشاف القوانين الخالدة للطبيعة والمواد المكونة لها، ثم محاولة السيطرة عليها وتسخيرها لخدمة الإنسان. ولذلك، فلا عجب أن النتائج التى سيتوصل إليها الكيميائى أو الفيزيائى من التحليل المعملى لمركبات معينة فى أحد بلدان العالم، هى نفسها ما سيصل إليه كيميائى أو فيزيائى آخر فى بلد آخر من العالم. أما حالة العلوم الاجتماعية، فهى أبعد ما يكون عن ذلك الثبات والتشابه. فمقدمات ونتائج البحوث الاجتماعية تختلف حسب الزمان والمكان. فالباحثون فى علم الاجتماع فى بلد ما فى حقبة ما، ستوصلهم أبحاثهم، بالضرورة، لنتائج متباينة لكل حقبة زمنية، ومختلفة عما إذا أجريت هذه البحوث فى بلد آخر، طالما اختلف هذان البلدان فى المستوى الحضارى والاجتماعى والثقافى؛ أو لمجرد اختلاف طبيعتهما الجغرافية والديمجرافية.

على كل حال، دعنى أقر أن الفجوة الواسعة والعميقة بين البلاد العربية والبلاد المتقدمة فى كفاءة البحث فى العلوم الطبيعية، يوجد لها مثيل فى العلوم الاجتماعية. إذ إن هناك سمات تجعل البحث فى علوم كالاقتصاد والاجتماع يبعد بمسافة كبيرة عن الوضع الأمثل، ويبعد بمسافة أكبر عن الحاجات الفعلية للبلاد العربية.

إن السمة الأولى من سمات البحث فى علمونا الاجتماعية العربية، هى غياب الأهداف والدوافع السليمة للبحوث التى يتم إعدادها. فمن الواضح جليا أن الهدف الغالب على هذه البحوث لا هو التفسير السليم للمشكلات والقضايا الاجتماعية العربية، ولا هو التنبؤ الدقيق بمآلاتها ونتائجها على مستقبل التنمية العربية؛ إنما الهدف الأول والدافع الأساسى لإعداد معظم البحوث الاجتماعية العربية هو ــ وبكل أسى وأسف ــ السعى وراء الترقية الوظيفية فى السلم الأكاديمى. وهذا الهدف فى حد ذاته كان من الممكن أن يساعد فى تطوير منتجات البحث العلمى؛ لدوره فى التحفيز الكمى للبحوث الاجتماعية، ومن ثم تحقيق التراكم والتطور العملى والفكرى. لكن الواقع العربى دائما ما يبعد عن المخطط له. فالظروف المحيطة بإجراءات الترقية العلمية، والمعايير الضابطة لها، لا تضمن إنتاج بحوث اجتماعية خادمة لقضايا التنمية. انظر مثلا للتطور الكمى فى عدد البحوث الاجتماعية العربية؛ وقارنه بالتطور فى نوعية هذه البحوث وفى كفاءة ما تتوصل إليه من نتائج وما تقترحه من توصيات وسياسات علاجية؛ ثم تفكر فى أثر كل هذه البحوث على السياسات والبرامج التى تطبق فى أرض الواقع؛ عندها قد تجد الانقطاع والانفصال الواضحين بين البحث العلمى وبين التطبيق العملى.

إننى لا أستسيغ التبرير الشائع فى المجتمع الأكاديمى لظاهرة عزوف التنفيذيين وصانعى السياسات العامة عن الأخذ بنتائج البحوث العملية، بأنه تقصير من جانب واحد، ولا يلام فيه غير التنفيذيين، والقول بأن ما على الباحث إلا البلاغ. فالصحيح فى رأيى أن الطرفين يشتركان فى تسبيب هذا العزوف. إذ عندما سعى الباحثون وراء أهداف آنية ضيقة، تراجعت جودة البحوث الاجتماعية، واستقر فى وعى التنفيذيين بأن هذه الأبحاث منخفضة الجدوى التطبيقية، وأنها تفيد الباحث ولا تفيد البحث العملى الرصين. وبذات القدر من المسئولية، كان ابتعاد التنفيذيين وصانعى السياسات العامة عن مجتمع البحث العلمى بمثابة صافرة البداية فى سباق التدهور فى البحوث الاجتماعية العربية. إننا إذن أمام طرفين أحدهما يبحث دون هدف، والآخر ينفذ بغير وعى؛ ثم تجدهما يتبادلان الاتهامات بالتقصير!

وإذا كان غياب الأهداف والدوافع السليمة سيبدد، لا محالة، الجهود البحثية وسيصرفها فى غير وجهتها الصحيحة، فإن هناك سمة أخرى تزيد وتعقد من مشكلات البحث فى العلوم الاجتماعية العربية؛ ألا وهى التقليد المخل للطرق والمناهج والنظريات والفروض البحثية الغربية. لقد قلت آنفا أن الاختلاف القائم بين المجتمعات الإنسانية يجب أن يفضى لاختلاف مقابل فى طريقة البحث فى العلوم الاجتماعية. وبالتالى، فلا يصح عقلا أن يتجاوز الباحثون العرب هذه الاختلافات، ثم يقلدون الطرق والمناهج والنظريات والفروض التى وضعت لتفسير واقع اجتماعى مختلف تماما. إن التقليد المنهجى يكون منطقيا، بل هو من الواجب، أثناء البحث فى العلوم الطبيعية؛ لكن قل لى بربك كيف يمكن لباحث اجتماعى أن يحلل ظاهرة تحصل فى مجتمع نامٍ معتمدا على نظرية اجتماعية أنتجتها ظروف تاريخية لمجتمع متقدم؟! هل يصح مثلا أن أدرس ظاهرة اجتماعية كالانتحار فى العالم العربى بنفس الطريقة وبنفس الفروض التى تدرس بها هذه الظاهرة فى اليابان؟! أو هل تصلح أيضا نظرية «الطلب على النقود» فى مجتمع رأسمالى متقدم أن تستخدم لتحليل نفس الطلب على النقود فى مجتمع نامٍ؟! إن العجب يأخذنى كل مأخذ عندما أطالع دراسة اجتماعية ما، وأرى فيها الإيمان الأعمى بصلاحية النظريات الاجتماعية الغربية فى تفسير ظواهر مجتمعنا العربى. صحيح، قد يوجد بعض التشابه فى البناء النظرى والمنهجى فى البحوث الاجتماعية بغض النظر عن الاختلافات الاجتماعية الإنسانية؛ لكن أن تصبح «الحكمة المألوفة» والعرف السائد فى المجتمع البحثى العربى هو الالتزام الكامل بالمناهج البحثية المستوردة، ويمسى هذا الالتزام هو شهادة الصلاحية الوحيدة لقبول نشر البحوث العملية، فهذا ليس من العلم فى شىء!

***
وتضيف مشكلة رداءة البيانات المتوافرة عن الظواهر الاجتماعية العربية سمة مهمة للسمات التى ترسم الشكل الردىء للبحث فى علومنا الاجتماعية. فلإخضاع أى ظاهرة اجتماعية للتحليل، يجب أن تتوافر البيانات السليمة عن أبعاد هذه الظاهرة. لكن هذه النوعية من البيانات تعتبر عملة نادرة فى مجتمع البحث العربى، وتعتبر عقبة كئود فى طريق البحوث الاجتماعية العربية. فلا البيانات التفصيلية عن العديد من الظواهر الاجتماعية سليمة، ولا البيانات التاريخية عنها متوفرة؛ فكيف للباحث الاجتماعى إذن أن يحلل هذه الظواهر، أو أن يخرج بنتائج وتوصيات سليمة عنها؟! وحتى فى البحوث الاجتماعية المعتمدة على الاستبيان والاستقصاء، وبافتراض سلامة المنهج الإحصائى المستخدم، فإن العينة الإحصائية قلما تعبر تعبيرا دقيقا عن المجتمع، وتعترى عملية تعبئة الاستبيانات مشكلات جوهرية تخصم من جودة ما تتوصل إليه هذه البحوث من نتائج.

وضف على ما سبق من سمات، أن هناك مشكلة عويصة فى الحيادية البحثية فى المجتمع البحثى العربى. فالسمة العامة فى البحوث الاجتماعية العربية هى التحيز المسبق لأيديولوجيا الباحث. ونادرا ما تجد باحثا أو بحثا اجتماعيا منزها عن هذا التحيز المقيت. فإذا كان الأصل فى التفكير والبحث العلمى أن الاستدلال السليم هو الوسيلة الوحيدة للاستنتاج الدقيق؛ فإن العديد من البحوث الاجتماعية العربية تلوى عنق الأدلة للوصول لنتائج تخدم تحيزات الباحثين. إن الباحث الاجتماعى، وهو مدفوع بقناعاته التى يبحث عنها، قد يتحيز لمناهج وطرق بحثية غير ملائمة، أو قد يتدخل فى عملية التحليل؛ فالمهم أن يصل لنتائج تتوافق مع أيديولوجيته وأهوائه، بغض النظر عن سلامة هذه النتيجة. فالباحث الاجتماعى العربى لا يبحث عن الدليل ليكون الاعتقاد؛ إنه يعتقد ثم يبحث عن دليل ليثبت اعتقاده!

على أن غياب روح الفريق عن المجتمع البحثى والأكاديمى العربى، وانتشار الصراعات بين الباحثين، لم يحسن أو يطور من مناخ التنافس داخل هذا المجتمع، ولم يزد أو يبادل أو يراكم الخبرات البحثية فيه؛ بل انعكس على جودة ما ينتجه من أبحاث، وزاد من حدة أزمته التاريخية. وهذه السمة تظهر بوضوح فى انتشار ظاهرة «الشللية» فى أروقة مجتمع البحث فى العلوم الاجتماعية العربية. فتكاد لا تخلو مؤسسة أكاديمية عربية من هذه التجمعات الضيقة. وبسبب هذه «الشللية»، تستأثر قلة قليلة بالتمويل المرصود للبحث العلمى، وتنصرف البحوث للموضوعات والمناهج البحثية التى تؤمن بها هذه التجمعات، وتفتح المجلات والمحافل الأكاديمية على مصراعيها أمامها، وتوصد أمام الذين لا ينتمون إليها. ولذلك، دائما ما أقول بأن ظاهرة «الشللية» فى مجتمع البحث العلمى العربى تضاهى ظاهرة الاحتكار فى الأسواق العربية!

وهناك سمة أخرى تعمق من المشكلات التى يواجهها مجتمع البحث فى العلوم الاجتماعية العربية؛ ألا وهى اللهاث وراء التصنيف الدولى للبحوث والمجلات والمؤتمرات فى العلوم الاجتماعية. فلقد أصبح من المسلمات فى هذا المجتمع أن التصنيف الدولى هو الأساس فى الحكم على جودة البحوث الاجتماعية العربية. فلو نشر بحث اجتماعى ما فى إحدى المجلات المصنفة دوليا، فهو دليل على رصانة هذا البحث، وهو شرط كافٍ للحفاوة به وللنظر إليه بعين التقدير والتبجيل؛ وذلك دون أدنى اعتبار لسلامة منهجه التحليلى، أو لجودة ما توصل إليه من نتائج وتوصيات، أو حتى النظر فى مدى ارتباطه بالقضايا الحقيقية للمجتمع العربى من الأساس؛ ولم لا، وقد شهد المصنفون الدوليون لهذا البحث! إننى، وبكل تأكيد، لا أبخس القواعد التى تضعها التصنيفات الدولية حقها؛ لكنى أنظر لجدواها فى تطوير المنتجات البحثية العربية، ولا أرى ما يسترعى كل هذا التبجيل والتقديس!

***
وعود على بدء؛ وإذا كنا نمتلك أعذارا لها وجاهتها لتبرير الفجوة الكبيرة التى تفصلنا عن البلدان المتقدمة فى العلوم الطبيعية وفى تطبيقاتها التكنولوجية؛ فإننى لا أجد لنا أى عذر فى الفجوة التى تفصلنا عن هذه البلدان فى حالة العلوم الاجتماعية. ومعضلة البحث فى علومنا الاجتماعية العربية لن تحل باهتمامنا بالكم على حسب النوع؛ فبحث واحد عامر بالأفكار السليمة، خير من ألف بحث خاو من أى مضمون تنموى!

محمد يوسف باحث رئيسي في مركز تريندز للبحوث والاستشارات بدولة الإمارات
التعليقات