كانت الفكرة مفاجئة تماما وخارج جدول الأعمال بالكامل.
بلا مقدمات ولا تفاصيل كشف وزير الخارجية الأمريكى "جون كيرى" لنظيره المصرى "نبيل فهمى" عن دعوة ينتويها لعقد مؤتمر دولى يبحث الأوضاع الأمنية المتدهورة فى ليبيا وسبل مواجهتها.
لفتت الفكرة الوزير المصرى السابق لكنها بدت أمامه بلا ملامح يعول عليها، فمثل هذه المؤتمرات تكتسب قيمتها من وضوح أهدافها وطبيعة أطرافها.
لهذا السبب تبددت فكرة "كيرى" سريعا، لا هو طرحها مرة أخرى ولا أى مسئول أمريكى غيره ألمح إليها.
مأزق الإدارة الأمريكية أنها لا تطرح أية استراتيجية شبه متماسكة وشبه مقنعة فى إدارة الحرب مع الإرهاب، لا فى ليبيا ولا فى غيرها من الملفات المشتعلة بالمنطقة.
وقد كان مؤتمر مكافحة التطرف الذى رعاه الرئيس الأمريكى "باراك أوباما" أقرب إلى ندوة فكرية تردد فى جنباتها كل ما هو معروف وموصوف عن الإرهاب، وهذا شأن مراكز الأبحاث لا مقرات الحكم.
فى البيت الأبيض حضرت المواعظ بقوة وعجزت السياسات بفداحة.
فى التوقيت نفسه تبدت أزمة، تكاد تفلت من عقالها، بين واشنطن والقاهرة.
لم تتردد الإدارة الأمريكية فى إدانة تذبيح واحد وعشرين مواطنا مصريا فى سرت الليبية كغيرها من دول العالم.. غير أنها عرقلت دبلوماسيا أية مطالب مصرية تدعم موقفها فى الحرب على الإرهاب أو أن تحصن حدودها الغربية وتضمن سلامة الأراضى الليبية فى الوقت نفسه.
لم يكن بوسع الإدارة الأمريكية التسامح مع سعى الرئاسة المصرية لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولى بالتدخل العسكرى فى ليبيا دون إذن مسبق، فالولايات المتحدة هى التى تقرر وحدها كيف ومتى يكون التدخل العسكرى وما طبيعته وأهدافه.
التطلع للعب دور الرجل القوى الجديد فى المنطقة تحته مائة خط أحمر. هذا هو صلب الأزمة الجديدة بين القاهرة وواشنطن
فى جميع التدخلات العسكرية السابقة التى شهدتها المنطقة المنكوبة قادت الولايات المتحدة أوركسترا السلاح وضبطت الحركة فى ميادين القتال الملتهبة والحركة الأخرى على مسارح السياسة الدولية.
لم تكن تعنيها الشرعية الدولية إلا بقدر ما يخدم أهدافها وخططها، عندما تقرر الحرب فإنها الحرب بغض النظر عمن يوافق أو يعترض.
فى الحالة الليبية أوكلت المهمة إلى حلف "الناتو" الذى أطاح نظام "معمر القذافى" دون عملية سياسية تنزع سلاح الميليشيات وتبنى مؤسسات الدولة من جيش وأمن وقضاء، كأن الفوضى مخططة ومقصودة.
لهذا السبب استقرت فى ليبيا كراهية أية تدخلات عسكرية غربية، فالتجربة مريرة إلى حد يصعب تجاوز جراحها.
عندما أعلنت الخارجية الإيطالية عن استعدادها للتدخل العسكرى فى ليبيا تحت مظلة أممية لم يكن هناك أحد مستعد للترحيب.
المثير أن إيطاليا نفسها تراجعت عن مثل هذا الاستعداد بإشارة من قائد الأوركسترا فى اليوم التالى.
وقبل انعقاد مجلس الأمن للنظر فى الأزمة الليبية بعد إعدام واحد وعشرين مواطنا مصريا على يد تنظيم "داعش" أصدرت الولايات المتحدة مع حلفائها الغربيين بيانا استباقيا أجهض أية رهانات على استصدار قرار أممى بالتدخل العسكرى، وفق طلب مصرى.
وضعت خطا أحمر فى الهواء قبل أية مداولات وأجهضت أية تحركات.
البيان الغربى أكد على الحل السياسى للأزمة الليبية، وهذا مما لا يمارى فيه أحد، فأية مواجهات مسلحة تنتهى بالضرورة على موائد السياسة.
لكن أى حل سياسى.. وتحت أية ظروف؟
بحسب المبعوث الأممى "برناردينو ليون" فإن هناك تقدما جرى إحرازه فى المفاوضات بين الأطراف المتنازعة للتوصل إلى حكومة توافق وطنى.
إلى هنا لا أحد يختلف، لكن ما بعده قنابل موقوتة جاهزة للانفجار تحت الموائد وفوقها.
فأحد الفريقين المتنازعين قضيته الأولى دعم وتسليح وتدريب الجيش الوطنى الليبى باعتباره قاعدة أى بناء محتمل للدولة، وتتراجع أولوية الحكومة والبرلمان رغم ما يحظيان به من اعتراف دولى إلى ما بعد هذه القضية.
استقالة الحكومة عند أية تسوية محتملة مسألة هينة وحل البرلمان الحالى ممكن بذات القدر، غير أن الجيش الوطنى الليبى مسألة أخرى يعنى التفاوض عليها تقويض فكرة الدولة كلها ومشروع صدام مسلح داخلى أوسع وأخطر، يفسح المجال لمزيد من تمدد التنظيمات التكفيرية.
هذا خط أحمر مصرى وليبى.
والفريق الآخر يصعب أن يتقبل نزع سلاح ميليشياته وتفكيك تحالفاته الداخلية التى تضم إلى جماعة الإخوان المسلمين تنظيمات تكفيرية، فهذه الخطوة تكلفتها باهظة دون أن يكون واثقا من أن بوسعه كسب أية انتخابات نيابية تالية.
وهنا خط أحمر قطرى وتركى.
إن لم تكن هناك قوة رادعة تسند أية عملية سياسية لتوحيد البلد ودحر الإرهاب فى الوقت نفسه فإن الرهان على حل سياسى بهذه المواصفات أقرب إلى الأوهام الملغمة.
سؤال القوة هو ذاته سؤال السياسة.
بوضوح كامل لن ينزع سلاح واحد فى ليبيا طواعية والخلط بين الحل السياسى ومواجهة الإرهاب إحباط للأول وتشجيع للثانى.
والمعنى أن إجهاض التحرك المصرى فى مجلس الأمن يكاد أن يكون قد وفر غطاء دوليا للإرهاب، فإذا كان التدخل العسكرى تحت مظلة دولية مستبعدا، والجيش الليبى غير قادر على الحسم بسبب ضعف تسليحه، فليست هناك أية احتمالات للتسوية السياسية وهو ما يرجح تمدد "داعش" فى المدن الليبية.
مشروع الحل السياسى ينطوى على دمج الإخوان مجددا فى العملية السياسية الليبية وغض النظر عن الانتهاكات التى ارتكبوها والتحالفات التى ضمتهم إلى تنظيمات تكفيرية.
وهو ما يعنى أن المحاولة نفسها سوف يحاولون فرضها هنا فى مصر، وأن الضغوط لن تتوقف لعدة سنوات قادمة.
رغم وضوح التوجهات الأمريكية أرادت السياسة المصرية استثمار الأثر الإيجابى للعملية التى تولاها سلاحها الجوى فوق قلعة "داعش" فى درنة الليبية وتطوير الهجوم دبلوماسيا.
وهذا تقدير صحيح وفى محله بشرط أن ينظر إلى الحقائق حوله ويبنى فوقها لا أن يقفز إلى الأمام بلا تشاور كاف مع الأطراف الأخرى الداخلة فى الملف.
فى البداية تجنبت الرئاسة المصرية إخطار "البنتاجون" أو أى طرف أوروبى بالعملية العسكرية، والقرار من أوله لآخره مصرى، وباستثناء الشقيق الليبى كان التكتم شاملا، خشية أن تتعرض المهمة للخطر من أى تسرب للمعلومات.
وهذا يضفى مزيدا من الثقة فى سلامة التوجه الوطنى ويرفع من منسوب الشرعية.
ثم بادرت بالتوجه إلى مجلس الأمن بمشروع قرار يتجاوز الإدانة التقليدية لتذبيح مصريين فى ليبيا إلى إجراءات تطلب دعم الجيش الليبى ورفع حظر توريد السلاح إليه.
وهذا نصفه إيجابى ونصفه الآخر سلبى.
ما هو إيجابى هذا الشعور بالثقة الذى تولد عن العملية العسكرية والحركة السريعة لكسب مساحات جديدة على المسرحين الإقليمى والدولى.
وما هو سلبى أن العمل الدبلوماسى لم يكن بذات إتقان العمل العسكرى، فتحول السعى لكسب مساحات حضور جديدة تستحقها مصر إلى خسارة مؤقتة مع أطراف دولية وإقليمية.
لم يجر أى تشاور جدى مع أى طرف أوروبى بشأن القرار وحدوده وما هو ممكن وما هو مؤجل، ولا مع أى طرف إقليمى من دول الجوار الليبى، بخاصة الجزائر وتونس، وقد كانت الجلسة العلنية لمجلس الأمن صادمة ومحزنة، فقد أبحرت مصر وليبيا فى اتجاه بينما ذهبت الجزائر وتونس باتجاه آخر، طرف عربى يتحدث عن دعم الجيش الليبى ورفع الحظر عنه وطرف عربى آخر يتحدث عن الحل السياسى الذى يعنى بالضبط ألا يرفع هذا الحظر. الأمر نفسه تكرر مع الأطراف الأفريقية المعنية بالملف الليبى مباشرة.
ما نحتاجه الآن أن نتقدم بثقة ونسد بقدر ما هو ممكن أية ثغرات أفضت إلى خسارة جولة نيويورك ولا نتردد، حيث يجب أن نحسم.