القـطـار - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 1:30 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القـطـار

نشر فى : السبت 21 يوليه 2012 - 10:15 ص | آخر تحديث : السبت 21 يوليه 2012 - 10:15 ص

ظلت وسيلة سفرى المفضلة هى القطار، متعة خاصة تشملنى كلما جلست بجانب النافذة وأسندت رأسى إلى الزجاج وأطلقت خيالى وأحلام يقظتى.. عرفته نظيفا هادئا ومنضبطا فى أغلب الأحوال، ثم تبدل الأمر ليصير السفر عن طريقه عبء ثقيلا وموجعا.

 

•••

أصبح القطار يعج بأدخنة السجائر. مقاعده متسخة مليئة بالبقع، ممزقة فى بعض الأماكن، ظهورها متصلبة على وضع وحيد، وستائره معطوبة لا تتحرك، انتشرت فى هوائه رائحة عطنة مميزة، بينما المكيفات ثابتة على حالها إما على صقيع أو على قيظ شديد. سمات مشتركة باتت تجمع عرباته، بغض النظر عن درجاتها؛ لم يعد الفارق بين الدرجة الأولى والثالثة كالفارق بين المستشفيات الحكومية إذ ما قورنت بالاستثمارية، أو مراكز الشباب إذ ما قورنت بنوادى الأثرياء. صار القطار أحد الخدمات النادرة التى تساوى بين جميع الطبقات.

 

 يمثل قطار الصعيد الفقير فئة مختلفة شديدة الخصوصية، يعرف الركاب فئرانه الأليفة السمينة وأرضيته اللزجة التى تلتصق بها أحذيتهم، بفعل الحمولات المتنوعة بين أطعمة ومشروبات، يعرفه الكثيرون باسم قطار الغلابة، أبواب مفقودة ونوافذ خشبية متهالكة أنهكتها الشمس وأشخاص يتدلون من كل الفتحات، وريفيات تحملن أوانى معدنية واسعة ممتلئة بالجبن القريش والبيض والفطير وتفترشن الأرض. ركبته مرات معدودة، وأقنعت نفسى بأنها كانت مرات استثنائية، وأن ثمة قطارات أخرى تذهب إلى الصعيد محتفظة لراكبيها بقدر من الآدمية وحسن الضيافة.

 

اقترن القطار باضطرابات كثيرة، باعتصامات لعمال السكك الحديدية، وبقطع الطريق وسرقة القضبان، وبتزايد أعداد الصبيان الذين يضربون النوافذ بالحجارة كلما مر أمامهم، كما ارتبط بالأعطال المتكررة والحوادث المرعبة.. دورة المياه التى سقطت عبر أرضيتها امرأة تعيسة لتستقر أشلاؤها بين العجلات، والحريق المفجع الذى كشف عن حواجز حديدية تسجن الركاب وتمنعهم من الفرار، ودائما هناك المزلقانات التى لا يتوقف أمامها أحد والتى تقتنص المواشى والمارة وأحيانا العربات.

 

•••

رغم كل المنغصات، كنت أجد فى المرات التى تعطل فيها القطار، والتى امتد بعضها لساعات طويلة، متسعا للشرود لا يشوبه أى شعور بالذنب على الوقت الضائع الذى لا حيلة لى تجاهه، ساعات من الانعزال عن ضغوط العمل ولهاثه، فى أحيان أخرى قدم لى القطار فرصاُ جيدة للكتابة ولقراءة ما لا وقت له فى الأيام العادية، فرص لم تكن تفسدها سوى محادثات الجالسين فى هواتفهم، والرنين الذى لا ينقطع، أغلب الناس يحمل فى يده إذاعة متنقلة لا تتوقف أبدا، وتجلب معها ذاك الشعور المُلِحّ بالحاجة إلى مساحة خاصة، لا يخترقها شيء. بقدر ما وفره توقف القطار وسط المساحات الخضراء من براح، بقدر ما كان ضجيج المسافرين باعثا على القفز منه.

 

فى رحلتى الأخيرة، كانت المحطة القديمة التى شُيِّدَت عام 1853 قد اختفت، تم هدمها وتجديدها فى محاولة بائسة للتحسين والتطوير. تاه النمط الإنجليزى القديم واستبدلت به زخرفات وتصميمات تحوى الكثير من المبالغة دون هوية واضحة، تغير شكل المحطة تماما وقبل ذلك بشهور تغير شكل بطاقة الحجز، تحولت التذكرة الكرتون المربعة الكبيرة إلى مستطيل صغير رقيق وضعيف، ومع التحول ازداد القطار ضعفا وانكسارا. كانت السكة الحديدية المصرية هى الأولى من نوعها فى الشرق الأوسط وافريقيا والثانية على مستوى العالم، ولا أدرى إن كانت لاتزال تحتل أى ترتيب من حيث الدقة والانتظام ومستوى الخدمات.

 

•••

تصر الاستعلامات الخاصة بالسكك الحديدية على الاتصال بين الحين والآخر لتسأل بضع أسئلة عن مستوى الخدمة وما يكتنفها من سلبيات دون أن يتغير شىء،.  وأصر من جانبى على ركوبه كلما سافرت رغم المعاناة، أستمتع بضوء الشمس اللطيف النافذ من الستائر فى الشتاء، وأحلم برحلة لا يعكر صفوها شىء.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات