تعد الأحزاب عصب الحياة السياسية، كما تبرز كمؤشر جاد على جودتها، كونها تأتى فى مقدمة معايير تقييم النظام السياسى، من حيث درجة الديمقراطية التى يتمتع بها، فإذا ما تعددت هذه الأحزاب وجرى تمكينها، اعتبر النظام ديمقراطيا، وعلى العكس حال إلغائها وتحجيم أدوارها، عُد النظام السياسى أبعد ما يكون عن الديمقراطية، إلا أن أبرز ما يميز التنظيم الحزبى عن أية جماعة أو فصيل، هو السعى الدائم من أجل الوصول إلى السلطة، وبديهى الرغبة فى تشكيل الأغلبية البرلمانية.
غير أن المشهد الحزبى فى مصر عاصر حقبا سياسية متعددة، اختلفت توجهاتها وقناعاتها حيال الأحزاب.. حراكها.. فاعليتها، بل بالأكثر مدى تأثيرها، فبينما بزغت التجربة الحزبية منذ منتصف القرن التاسع عشر، ومع انطلاق المجالس النيابية ــ مجلس شورى النواب، ثم بدايات القرن العشرين وتأسيس جماعى لمجموعة من الأحزاب، قاد الزعيم الراحل سعد زغلول أقواها، وهو ما عرف وقتها بالحزب الوطنى، تأتى الخمسينيات ومذبحة الأحزاب الشهيرة ــ إن جاز التعبير ــ فى عهد مجلس قيادة الثورة وبمشاركة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، حينما تم حل جميع الأحزاب السياسية وبموجب «قانون 37 لسنة 1954»، لتعود فى الانطلاق مرة أخرى فى عهد الرئيس السادات والذى أصدر قانونها الشهير رقم «40 لسنة 1977»، والمعمول به حتى وقتنا هذا.
وربما استدعت حالة الحراك الحزبى والتى شهدتها مصر، عقب أحداث يناير 2011، الدراسة والتحليل، سيما الفجوة التى برزت ما بين أعداد الأحزاب الناشئة، والتى اعتمدتها لجنة شئون الأحزاب وقتها، وبين الغياب التام لفاعلية هذه الأحزاب وتأثيرها فى الشارع المصرى.
• • •
وبالرغم من السيولة السياسية والتى سادت آنذاك، وانطلاق العشرات من هذه الأحزاب إلى التأسيس والمضى فى وضع البنى التنظيمية والهيكلية، إلا أن التحديات والمعوقات كانت الأكثر وضوحا بالمشهد، وربما عززت تراجع الآلية الحزبية مع إبراز كل نواحى القصور والإخفاقات، ولا أدل من الانشقاقات الداخلية والفشل الواضح فى تكوين التحالفات وقتها، حتى عُرف معظمها بالأحزاب الكرتونية، فى إشارة إلى عجز واضح من قبل معظمها، والتى فشلت فى لعب الدور الحقيقى فيما يخص التعبير عن المطالب الشعبية والفئات المجتمعية، أو على الأقل تمثيل حلقة الوصل ما بين المواطنين وصناع القرار، على نحو يسهم فى صنع وصياغة السياسات العامة.
ومن ثم أصبح المشهد الحزبى بشكل عام ــ وبغض النظر عن النظام السياسى المعاصر ــ يعانى ترهلا واضحا، وربما فقدان القدرة على التكيف مع الأوضاع والتغيرات المعاصرة، ضاعف من تراجعه، خصوصا مع المستجدات على جميع المستويات سياسية واقتصادية وحتى ثقافية ومجتمعية، والتى تطلبت بدورها فاعلية حزبية أكثر قوة وتأثيرا، وربما قد تتخطى المهام التقليدية للأحزاب سواء ما تعلق بعمليات التجنيد السياسى أو حتى الثقافة السياسية للأفراد، إلى الاضطلاع بأدوار تنموية ومجتمعية.
ثمة عدة تساؤلات مفصلية لا بد لأى حزب من أن يضعها فى الاعتبار، إذا ما أراد تصدر الحياة السياسية والإمساك بتلابيبها، أولها وأهمها ما هى الوجهة السياسية التى يسعى للوصول إليها؟ فهل سيمثل المعارضة أم سيدعم النظام ومن ثم السعى لتكوين الأغلبية البرلمانية؟ ماذا عن أيدلوجيته وأجندته السياسية وأبرز مبادئها؟ والأهم ما هى معايير اختيار كوادره وقياداته؟ وهل يسعى لتثقيفهم وتنميتهم سياسيا عبر التعاون مع مراكز الدراسات والأبحاث؟ وما التصورات المستقبلية القادمة بخصوص بنيته وهيكليته؟ فهل يبحث الاستمرارية وبنفس أطر البداية أم من المتوقع الانخراط فى التحالفات بتوجهاتها المختلفة إن كانت يسارية أو وسطية أو حتى يمينية؟
• • •
لعل إشكالية الأحزاب الجوهرية تبرز فى غياب المنهجية اللازمة من أجل كيفية صياغة فلسفة الإدارة والتنظيم مع التعبئة الجيدة للكوادر والأفراد، والأهم وضع الخطط الاستراتيجية ومتابعتها، أيضا تحديد الأهداف ومراقبة المتغيرات على جميع الأصعدة، ومن ثم إمكانية توفير مرتكزات التأقلم والتعاطى مع المتناقضات، فقد تتعثر كل هذه المجريات بشكل تام سواء المتعلقة بالهياكل التنظيمية والإدارية، أو صياغة الروئ وإدارة الأهداف حال غياب هذه المنهجية، ذلك أن الحياة الحزبية تُواجه بالعديد من التعقيدات، أبرزها الافتقار للأيدلوجية والقناعة الواضحة مع انخفاض نسب التأثير، بل يمكن الجزم بانعدام القاعدة الاجتماعية لدى معظم هذه الأحزاب، وعدم قدرتها مواجهة تقلبات الرأى العام وترسانته الإلكترونية، والكفيلة بمنافسة الأحزاب وأنشطتها، إلى جانب ضعف التمويل وعجز الموارد المالية، وإن تشكلت معظمها من قبيل تبرعات الأحزاب نفسها وقياداتها، ناهيك عن تراجع كفاءة الكوادر السياسية، فمعظم الشخصيات الحزبية لم تتلقَ القدر المعقول من التثقيف السياسى، أو حتى أدت جانبا يُذكر من الممارسة السياسية المطلوبة، أضف أن أغلبهم لا يتمتعون بالخلفية الأكاديمية للسياسة ودراساتها، فقد يتم اختيارهم على أساس طبقى أو حتى من قبيل شبكة العلاقات والمعارف.
ربما عدم مواكبة قانون الأحزاب والمعمول به رقم «40 لسنة 1977»، للتغييرات المتراكمة، أسهم بشكل أو بآخر فى تراجع فعالية المشهد الحزبى، بل عُد فى مقدمة التحديات، وإن انصبت جلسات الحوار الوطنى مؤخرا على ضرورة إجراء التعديلات على نفس القانون، حيث جاءت التوافقات حول ضرورة تعديل مواد 8، 17، فى إطار تقوية الجبهة الحزبية وتفعيل أدورها، وتنص هذه المواد على:
المادة 8 فقرة (3): تختص اللجنة بفحص ودراسة إخطارات تأسيس الأحزاب السياسية، والتنسيق مع الجهات المعنية، للتأكد من توافر شروط تأسيس أو استمرار الحزب المنصوص عليه بالمادة «4» من القانون.
المادة 8 فقرة (9): فى حال اعتراض اللجنة على تأسيس الحزب أو على أمر من الأمور المبينة بالمادة (16) من قانون الأحزاب السياسية، تصدر قرارها بذلك على أن تقوم بعرض هذا الاعتراض خلال 8 أيام على الأكثر على الدائرة الأولى للمحكمة الإدارية العليا لتأييده أو إلغائه، ويعتبر القرار كأن لم يكن بعدم عرضه على هذه المحكمة خلال الأجل المحدد.
المادة 17 فقرة (1): يجوز لرئيس لجنة الأحزاب السياسية بعد موافقتها، أن يطلب من الدائرة الأولى بالمحكمة الإدارية العليا، حل الحزب وتصفية أمواله وتحديد الجهة التى تئول إليها، أو تجميد نشاطه لحين توفيق الأوضاع خلال مدة لا تزيد عن سنة، وذلك إذا ثبت للجنة من تقرير النائب العام بعد تحقيق تجريه تخلف أو زوال أى شرط من الشروط المنصوص عليها فى المادة (4) من هذا القانون.
وما زالت آراء المشاركين بالحوار متباينة تجاه إمكانية إجراء التعديلات من عدمها، إلا أن معظمها اتفقت على ضرورة بحث كل معوقات المشهد الحزبى، مع وجوب دعمها وتذليل العقبات أمامها.
يمكن القول إن صياغة أى استراتيجية من شأنها تعزيز المشهد الحزبى، تقتضى أول ما تقتضيه إسناد هذه الأحزاب كمنظومة متكاملة إلى مؤسسات وهيئات وطنية تكون مهمتها التعاطى مع كل احتياجات هذه المنظومة، وعلى نحو يضمن تصنيفها أيدلوجيا وتأثيريا، أيضا الارتقاء ببنيتها وأطرها المؤسسية، والأهم إعمال نظم حوكمة حقيقية كفيلة بالإدارة والتنظيم، بالمقابل ومع بدء تحرك الأحزاب السياسية تجاه فعالياتها وأنشطتها، وبالتزامن مع انطلاق الاستعدادات للانتخابات الرئاسية، وجب على القاعدة الحزبية ترتيب أولوياتها، مع توفيق أوضاعها سيما بنيتها التنظيمية والإدارية، ومن ثم الانطلاق ناحية القاعدة المجتمعية وإحداث الأصداء المرجوة، وهنا يظل الفكر والأيدلوجية الواضحة مع المنهجية الفاعلة أبرز ضمانات فعالية هذه الأحزاب وتأثيرها.