جون.. فى الجونة! - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 4 مايو 2024 4:43 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جون.. فى الجونة!

نشر فى : الأربعاء 22 يوليه 2009 - 10:57 م | آخر تحديث : الأربعاء 22 يوليه 2009 - 10:57 م
رأيت الجون يدخل فى الجونة، فلم أهتف، بل صحت: «آااااااه».

هذا ليس لأنى مشجع لفريق الجونة الذى لا أعرف غير اسمه، ولكن لأن الجونة التى أعنيها ليست فريق كرة قدم، ولا الهدف الذى أصابها هو كرة فى مرمى.

والحكاية أننى فى إجازة منتصف العام، وبعد قرف المدارس التى لم تعد مدارس، بل وسائل لسحق الأولاد، وإحراق «لمّة» العائلة وبهجة الترحال والتزاور. عزمت ويممت بقبيلتى الصغيرة شطر الجنوب، باحثا عن مكان على البحر غير مهروس بالزحام، وليس على قوائم «تقليعات» جراد محدثى النعمة. وعثرت على ضالتى فى «الجونة»، التى تحبها من نحبها، فاتن حمامة!

كانت ساعات السفر الخمس قاسية بعض الشىء، برغم الأتوبيس المكيف الفاخر، والطريق الذى وجدته قد اتسع وازدوج. لكننا بمجرد أن وطئت أقدامنا أرض «الجونة»، زالت عنا وعثاء السفر بتنفس الهواء النظيف، وارتشاف عذوبة الألوان، واحتضان نعمة الهدوء. ومن شرفة الفندق الذى كان قليل النزلاء، ومعظمهم أجانب، ترامت أمام أبصارنا والأرواح، لوحة ولا أروع، حيث تتغازل فتنة البحيرات والقنوات والبحر مع إبداعات الإنسان الفنان على البر.

ثم كانت كل خطوة فى المدينة الصغيرة التحفة إضافة للروعة. عمارة فاتنة تستلهم التراث النوبى والإسلامى وأفضل ما فى إنجازات العمارة الجمالية فى الجنوب الإيطالى وجزر اليونان. دروب تلتف بحلاوة وجسور تتنهد فى صفاء. بحيرات بلون الفيروز، وقنوات شفافة الزرقة، وبحر لم يتلوث بعد. مكان حضارى ولو بنكهة أوروبية. ولم لا، ألا يكمن حل مشكلة الأصالة والمعاصرة فى مقتضى الملاءمة والنفع ودلالة الجمال. خاصة وهذا الجمال نفسه الذى فى الجونة يفوح ببعضٍ من عطر الازدهار العربى المعمارى الذى كان فى صقلية والأندلس؟

شعرت حينها، وأشعر كثيرا بالحزن، لأننا فيما نعيشه من مناخات الكذب، لا نستطيع أن نعلن مشاعرنا الإيجابية تجاه من نعتقد أنه أحسن عملا، أو بعض العمل، خوفا من شبهة الملق أو وصمة المنفعة، أو بلوة التكفير أحيانا إذا كان من نثنى عليه من دين مختلف، مهما كان صدق مصريته، لهذا أكرر أن الثناء يتطلب شجاعة تفوق شجاعة الهجاء فيما نحن فيه، وأقول بأن هناك بين رجال الأعمال، مسلمين ومسيحيين، قلة نادرة تستحق ولو بعض التقدير، والتقدير ناتج من الإحساس بأنهم مختلفون بطموحهم الجمالى والثقافى والحضارى، عن معظم بليونيرات زمن الجلافة والغفلة.

ولأن ذلك كذلك، فإننى أخص بالثناء هنا سميح ساويرس، منشئ الجونة، والتى بالمناسبة ذهبت إليها على نفقتى الخاصة، وبالمناسبة أيضا، وتحسبا لجور المتربصين، فإننى حصلت على جائزة ساويروس لكبار الكتاب فى القصة عام 2005، بقرار من لجنة تحكيم مستقلة، بل حنبلية، قررت أن تقدم لى الجائزة دون أن أتقدم لها لاستحقاقى، وأنا مستحق، برغم أنف جوائز الدولة التى لم ولن أتقدم لها. ثم إننى فى حفل تسلم الجوائز كنت أول المختفين، سلمت ومضيت دون أن أتعرف حتى على آل ساويرس، برغم تقديرى لتحضّرهم، ولمجرد أننى أرتعب من مجرد شبهة المنفعة بين بليونيرات. ولنعد إلى ما كنا فيه.
مضى اليوم الأول لنا فى الجونة كأبهى ما يكون، وكنت أفكر طوال الوقت فى ضرورة أن تأتى أفواج المصريين إلى هذا المكان، لتحقيق شىء من النظرية التى طالما دافعت عنها، وهى محاربة الانحطاط بكل مفرزاته السياسية والاجتماعية، بسلاح الجمال، تطبيقا لمقولة العقاد التى لا أزال أكررها بافتتان: «علمنى كيف أحب الزهرة، أحب الوطن».

فى اليوم الثانى لنا فى الجونة ضج الواقع بتحقق الخاطر، فقد جاء أتوبيسان كبيران وأنزلا فوجا كبيرا من الموظفين وأسرهم، ولابد أن اللجنة النقابية بالمؤسسة التابعين لها نظمت لهم هذه الرحلة مقابل اشتراكات تناسب دخولهم. وشعرت بالفرح لأن يضاف هؤلاء، عبر التفاعل مع جمال المكان، إلى قوى التغيير والتحضير فى مصر، لكن قلبى سرعان ما غزاه الوجل!

داهمنى ضجيج الزعيق وشرشحة البهجة، وروّعنى الهجوم الجماعى على البوفيه المفتوح فى أوقات الطعام، وملء الأطباق حتى تتدلدق على الأرض، بالرغم من الوفرة الواضحة والاستعداد الجدى من الفندق لاستقبال هذا الفوج بل أضعافه. وأرعبنى أن أجد نفسى موشكا على التماهى مع ما يحدث حولى، فأجفلت. وقلت، لا بأس، هو جوع تاريخى، وأزمة ثقة مستحكمة لدى المصريين فى وعود كل سُلطة، حتى لو كانت سلطة مطعم. وتفاءلت بالجمال مع الوقت.

لم يتبدل الدهم، ولا خَفَت الزعيق، ولا تراجع التكالب فى طابور البوفيه المفتوح. وبتأمل عميق لأفراد هذا الفوج، شعرت بالتأثر لأن هؤلاء البشر فى تكوينهم الأصيل الذى كانت تشى به لمحة هنا ولمحة هناك، طيبون، وذوو همة، فيهم عطف وتعاطف، ورهافة حس تتجلى فى تعاملهم الودود، ساعة الصفاء، فيما بينهم، والتصرف الراقى مع الأجانب من النزلاء. فمن أين أتى التشوه المضاف إلى جوهرهم الثمين؟ ولم ينتظر السؤال كثيرا، لأن الإجابة تجسدت أمامى، وفى حومة الهجوم على البوفيه المفتوح نفسه!
كنت أجاهد لأمضى فى طابور البوفيه بهدوء، منتقيا ما أختاره من صنوف الطعام المعروضة دون أن أزاحم أحدا أو يزاحمنى أحد، لكن الطابور لم يكن طابورا، بل فوضى لتكتل بشرى يزحف فى صخب. وفجأة سطع رجل طويل عريض مهندم بقربى، وخارج طابور الفوضى. كان يمسك طبقه مترفعا، ويتحرك بتؤدة وثقة على حافة الطابور. لم يكن يقتحم، ولا حتى يطلب شيئا من أحد. بل كان أفراد الطابور هم الذين يتهافتون فى سؤاله وتلبية ما يطلب دون أن يدخل فى حشرهم: «أجيب لحضرتك إيه.. كمان سعادتك لحمه.. بفتيك.. سمك.. كفتة.. حضرتك تؤمر».

خرجت من الطابور بعد أن حصلت على ما يكفى لبداية الطعام، مدركا أن الزحام سيخف بعد هذه الهجمات المبكرة. ولم أستطع مقاومة فضولى فاتجهت نحو أحد الموظفين فى الأرض، المجاهدين فى الزحمة، وسألته مشيرا إلى الرجل المهيب: «حضرته يبقى مين». وكانت الإجابة مشفوعة بإيماءات التكبير والتوقير والتفخيم: «دا سيادة المدير حضرتك».

مديرهم فى العمل، فى المؤسسة، أما فى المطعم، فى الفندق، فى الإجازة؟ كنت أسائل نفسى بعد أن رأيت هدف التسلل يدخل عينى عينك فى مرمى الجونة، يهز شباك الجمال، ويهز ما كان يقينى، فقلت: آاااه.
ليست آهة أسف فقط، لكنها آهة مراجعة قاسية لنظريتى فى محاربة الانحطاط والاستبداد والفساد بتعميق حب الجمال. فليس بالجمال وحده يكون التغيير. فالداخل إلى ساحات الجمال لابد أن يتطهر أولا من قهره الداخلى، وشعوره بالضعة والتصاغر أمام أى مدير، حتى لو كان مدير عام عموم البلاد. وإلا صار مرور البشر بملامح الجمال، كمرور الريح على البلاط، بلاط الساحات البديعة الملونة.. فى الجونة.. مثلا!
محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .