بدأت شبكة نتفليكس التلفزيونية أخيرا عرض أفلام المخرج يوسف شاهين بنسخها المرممة، وهى فرصة لمشاهدة ما فاتنى من أفلام العملاق المصرى أو لإعادة النظر فى أفلام له شاهدتها فى مراحل سابقة. سوف أترك التعليق عن جودة الترميم لأصحاب المهنة، كما أترك التحليل حول محتوى الأفلام ودلالات المشاهد السياسية وإسقاطات القصص الشخصية للنقاد المخضرمين منهم والهواة. سوف أتوقف عند مشهد من فيلم «حدوتة مصرية» ضم باقة رائعة من الممثلين تمعنت فيه بجمال الفنانة يسرا وشباب نور الشريف وتذكرت صوت ماجدة الخطيب المميز وأناقة سهير البابلى وغيرهم... ثم تنبهت أن أكثر من نصف من هم فى المشهد قد رحلوا عن عالمنا!
***
«نحن نعيش وسط الأموات» قلت لنفسى. شخصيات الأفلام حاضرة فى ذهنى مع وجوه ربما أثر عليها الزمن حتى اختفت، نبرات أصوات أتذكرها من طفولتى حين شاهد من أكبر منى سنا هذه المشاهد وتلصصت أنا عليهم. نجوم زينت أدوارهم الشاشتين الصغيرة والكبيرة قبل أن يصبح الانترنت عنوانا للثقافة الجماهيرية. أتابع الفيلم دون أن أتابع أحداثه بقدر ما أدقق فى وجوه من فيه لأنها تماما كما أتذكرها إنما لم يعد أصحابها معنا فى هذه الدنيا.
***
أظن أن الأربعينيات من عمر الشخص، على الأقل فى حالتى، هى مرحلة انتقالية غريبة، أشعر فيها وكأننى داخل مصعد يتوقف عند كل طابق بعد أن كان يقفز الطوابق العشر فى كبسة واحدة. ها هو يبطئ، ويفتح أبوابه فيخرج منه بعض الركاب دون أن يودعونى ويدخل آخرون على أن أحدد موقفى منهم بشكل سريع فإما أحييهم أو أتجاهلهم. أشعر أن المصعد قفز من الدور الأرضى إلى الدور العشرين دون أن يتوقف، ومن بداخله يستطيعون أن يخرجوا فى الدور العشرين ويهرولوا بخفة على السلالم إلى المحطة التى يريدون التوقف عندها. ثم يبدأ المصعد بالتوقف كل محطتين أو ثلاثة بين الأدوار العشرين التالية مثلا، ويبطئ من بعدها فيتوقف عند كل طابق.
***
هنا توقف المصعد وخرجت صديقة دون أن تلتفت إلى رغم سنواتنا معا. هنا دخل شخص حاول أن يفتح معى حديثا عن السياسة. فى الطابق التالى فقدت قريبى وأخبرنى من بقى فى المصعد أنه كان مريضا. ثم دخلت جارة لم أرها منذ كنت طفلة وخرجت بسرعة وهى توصينى بأن أسلم على والدتى. أنا إذا فى المصعد أتحرك من طابق إلى آخر ومع كل فتح وإغلاق للأبواب يرسم الزمن خطا حول إحدى عينى.
***
فى المصعد مرآة كبيرة أختار أحيانا أن أقف أمامها وأعطى ظهرى إلى باب المصعد فأنا لا أريد أن أرى من أعرفهم يدخلون ثم يخرجون منه بلا عودة. لكنى أرى انعكاس صورهم فى المرآة، فحتى لو أننى لم أتكلم معهم إنما أحزن حين أراهم يدخلون لأننى أعرف أنهم سيخرجون منه دون أن يودعونى ولن أراهم بعد ذلك.
***
أصعب ما فى المصعد هو أننى لم أدس على زرار للتوقف، ولا أعرف فى أى طابق سوف أخرج. فى أربعينيات الحياة ثمة تضارب بين شعور بامتلاك العالم وخوف من أن ينزلق العالم من بين أصابعى دون أن أمسكه! قدم فى الشباب وقدم فى الشيخوخة، ومصعد يتوقف عند كل طابق وفى كل مرة ثمة عنصر للمفاجأة يلوى شيئا فى داخلى ريثما تفتح وتغلق الأبواب فأطمئن أن لا أحد ممن أحب قد خرج.
***
يقول المفكر الإيطالى غرامشى إننا نصبح مسنين عندما نبدأ بالخوف، وأنا أحاول أن أشيح بوجهى عن الخوف من التقدم بالعمر والتقدم نحو الموت، فكل طابق يتوقف عنده المصعد يبعدنى درجة عن الأرض والزرع والبذور التى سوف تنبت الزهور بينما أنتقل أنا مع غيرى إلى طوابق بعيدة.
***
أتساءل كثيرا إن كان جيل أولادى سوف يعرف أفلام يوسف شاهين ومن فيها، إن كان جيل اليوتيوب سوف يبحث عن ليلى مراد وهند رستم أم أن المصعد قد تمت برمجته على أساس محو ذاكرة الركاب الشباب من صور بالأبيض والأسود أو من صور ملونة بهتت فيها الألوان وأصفر فيها اللون البرتقالى.
***
كيف سيكون العالم دون أفلام يوسف شاهين ودون قصص حب عبدالحليم حافظ؟ نزلوا من المصعد لكننى حملت أصواتهم معى وها أنا لم أعد قادرة على نقلها إلى الركاب الجدد. ما زالت الأغانى فى داخلى لكنى فقدت القدرة على دندنتها وهى أصلا لا تهم الركاب الجدد ولا ترمز لهم بشىء يحنون إليه.
***
القديم لم يمت والجديد لو يولد بعد كما قال غرامشى، وأظن أن تلك هى أصعب المراحل، مرحلة الوقوف فى مصعد لم أضغط فيه على زرار يحدد وجهتى إنما أراقب من يدخل ومن يخرج فأسلم عليهم أحيانا ويختفون من تحت نظرى أحيانا أخرى دون أن أودعهم.
***
أربعينيات العمر كمصعد بدأ بالتوقف عند كل محطة بعد أن قفز بين الدور الأرضى والطابق العشرين دون توقف.